مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -4-

الحلقة الرابعة:

ليلة الرابوني الأولى:

أرسلت الشمس أول خيوطها إلى الأرض فأيقظني أحدهم برجله. ركلة على البطن كافية لأنهض بسرعة متناسيا كل الآلام. كذلك فعل مع زميلي. كان آخر عهد لي بالطعام تلك الرشفة من الشاي التي أعْطانِيهَا صاحب الكندورة والسلهام الأسود. لم يكن من فُطور بعد تلك الجُرعة السوداء لهذا الجسد الذي أنهكه التعذيب سوى الرّكل والرفس.

أشار إلى بعض أدوات الحفر أن نحملها، ثم أمرنا أن نحفر موضعا يتسع للشاحنة التي تزود المكان بالماء، يسمّونها الكُوبَة.

 لم يكن أمامنا سوى أن نحفر خندقا كبيرا يتسع لها ويخفيها من الطائرات الاستطلاعية. اشتغلنا دون توقف حتى حدود العاشرة صباحا كما قدّرت. وَصَل ضابط قبايلي وأربعة ضباط من البوليساريو.

أمرونا أن نترك تلك الأدوات التي نحفر بها، ونركب سيارة ستُقلّنا إلى الرّابوني الذي يبعد عن تيندوف بإثنتي وعشرين كيلومتر شرق هذا الموضع. الرابوني، الرّوبيني، كلها تسميات تدل على وجود سقاية في زمن ما. تعددت الأسماء والمعتقل واحِدٌ وفريد.

لا يملك الأسير سوى أن يطيع أوامر مُقيّدِهِ، ينتقل به من مكان لآخر. ركبنا ثلاث سيارات وانطلقنا. لم يقيّدونا إلى عمود الجيب الحديدي كما اعتادوا أن يفعلوا. ربما أدركوا أن المغامرة بالهرب أمر لن يُقدم عليه سوى راغب في الموت: إما قتلا بالرّصاص أو عطشا في الصحراء. لذلك تركونا هكذا، وإن لم ننل الحُرّية فعلى الأقل فأيدينا وأرجلنا حُرّة. نهرش موضع آلامنا بأصابعنا كلما دعت الضرورة. أن تملك الحق في أن تحكّ بأظافرك مكانا ما في جلدك، ياه، ما أعظمه من حق، قد لا يعني شيئا لشخص يحلم بامتلاك الڤيلات الواسعة، ذات الخدم البشوشين والمسابح الواسعة، لكنه بالنسبة لأسير مقيد اليدين حلم كبير.

على ظهر الحمادة توقفوا بنا لإعداد الغذاء. كانوا يرغبون في تناول الطعام وشرب الشاي، قصدوا شجرة طلحة كبيرة. الطلح يُحيي بداخلي ذكريات الطفولة، لأنه شجر ينبتُ أيضا في مسقط رأسي، كنت أتأمل تلك الشجرة الكبيرة التي تسلقت مثلها في بلدتي.

تحت أشجار الطلح في نواحي “النقوب” كنت أرعى الغنم، وتحت تلك الأشجار كنت أردّد أهازيج البدو من قومي غير مبال بهذا العالم. كل طموحي أن تعود أغنامي في المساء، وقد انتفخت بطونها من الشبع.

كنت أجلس حيث يجلسون، ولا أتحرك إلا بأمر منهم، لأتجنب أي تعذيب مجاني أو كلام نابي سوف يؤزم نفسيتي.

 تفرقوا لجمع الحطب من مسافات قريبة، وبقيت وواحد منهم، بينما زميلي كان مع الذين يجمعون الحطب لإعداد الغذاء والشاي.

سألني الذي كان بجانبي:

ــ قُل يا شْلّيح، تعرف تعجن؟

ــ إييه، أعرف.

ــ زيد، نشُوفو.

عاد الذين ذهبوا لجلب الحطب، ومعهم كميات مهمة من الأعواد والسيقان اليابسة. صنعت حفرة كبيرة في الرمل وأضرمت فيها النار.

أخذتُ إناءً أبيضَ أعطانِيهِ والدقيق والماء وبدأتُ أعجن بعدما غَسلتُ يداي. كانوا ينظرون إليّ وهم يُعدّون الشاي الثقيل، وأحدهم يعدّ أسياخ لحم جلبوه معهم من مكان ما.

أتممتُ عملية العجن ووضعتُ العجين في الحفرة الملتهبة بعدما نظفتها من الرماد وبقايا النار. غطيت العجين بالرمل السّاخن والرماد ثم أضرمت النار فوقه من جديد.

كانوا يُعِدّون الشاي تحت الطلحة. اقتربت منهم وأخذت مكاني دون كلام وأنا أتأمل البرّاد الموضوع على الأثافي، فيذكرني بأوقات الظهيرة في بلدتي عندما كنت أرعى. بعد هنيهة قال لي أحدهم:

ـ شُوف خبزك يا شْلّيّح.

نهضت من مكاني. قلّبتُ خبزتي فوجدتها قد نضجت. نظّفتُها من الرماد وما علقَ بها من تراب فَبَدَت شهية تُغري. خاصة وأن الجوع الذي أشعر به جعلني أراها كأشهى وجبة. كنت أشم رائحة احتراق حوافها، فيسيل لُعابي.

سمعت أحدهم يقول لزَمِيلِهِ ساخرا وهو يتأمّل خُبزتِي:

ــ من الصّعب أن ننتصِر في خمسة أعوام على جيش الحْوِيسِينْ (تصغير الحَسَن) مادام يضم مثل هذه العناصِر بين صُفوفه.

ناولتُ الخبزة المطهيّة لأحدهم. قسّمها بيننا. لم تكن القسمة ضِيزَى. منح لكل واحد جزءًا وسيخ لحم. انطلقت بنا السيّارة من جديد حتى بدأ الظلام يفرض نفسه على نور النهار. سارت بنا الجيب بعض كيلومترات، فوجدنا قبالتنا أول مخيم للانفصاليين.

توقفت بنا السيارة ونزل منها الضباط الذين كانوا صحبتنا لتناول العشاء لوحدهم.

 استقبلوهم بصحن من الشّعرية. بينما وفّروا لنا نحن حراسة مشدّدة لأن العديد من النساء في ذلك المخيم كُنّ يصرخن فينا ويرغبن في تمزيقنا إربا إربا. تتعالى شتائمهن، لنا ولمقدسات الوطن.

لعنات وسباب متنوع لا أعرف معناه كلّه، لكن فهمته من خلال ملامح وجوههن وصُراخهن. كنّ يطلبن من الحرّاس أن يسمحوا لهن بأن يُبَرّدن فينا قلوبهن.

يا تُرى أتبرد قُلوبهن عندما يسيل دم أسرى عُزّل، لا سلاح معهم ولا ذنب سوى أنهم خرجوا ذات صباح لتوفير حراسة لأرواح وأملاك صحراويين تُجار اندس بينهم الخونة ؟ لكن الحراس منعنهن ولم يصلنا منهن سوى الشتائم والبُصاق الساخن الخاثر. وكان ذلك هو عشاءنا في ذلك اليوم المشهود.

تحت الحراسة المشدّدة أعادونا إلى السيارة بعدما أفرغوا الصحن من الطعام وتناولوا حديثا قصيرا، لنواصل الطريق نحو الرابوني. المعتقل كان عبارة عن حُفر كبيرة بعمق أربعة أمتار ومساحة ستة أمتار مربعة. حفرت السلطات الجزائرية تلك الحُفَر خصّيصا من أجل أن تُكَدّس فيها الأسرى. ليل الحفرة بارد جدا ونهارها مشمس حار.

أنزلونا إلى تلك الحفرة. علّق أحدهم ساخرا منا:

ــ تصبحوا على خير، الصباح نجيب ليكم القهوة السّخونة. هادي دبا الثناعش.

قال ذلك بعد أن نظر إلى ساعته اليدوية تحت ضوء السيارة. تركوا حارسين يُطِلاّن علينا بين الفترة والأخرى، وكأنهما خشيا أن تنبت لنا أجنحة نطير بها من تلك الحُفرة.

كان زميلي حامل الراديو إلى جِواري يتألم وكلما لمح أحد العسس يقول له:

ــ بغيت نشرب الله يرحم والديك..

فيجيبه وهو يرمي علينا الرمل حتى نتجنب النظر إليه:

ــ قل لميركان تعطيك تشرب، حنا مانعْطيوْكُوم غير النار الزرقة. تقتلوا ولادنا وتنكحوا بناتنا وبغيتي نعطيك تشرب؟

ــ بغيت نشرب الله ينعل والديك..

ولا جواب سوى الرمل الذي ينثره علينا كلما أراد.

لا أذكر متى نمنا في تلك الحفرة. وفِي الحلم ذهبت إلى “تمازيرت” ، وصلتُ مع وقت الضحى، حيث مراسيم عُرس أخي قد بدأت في يومها الأول. فرحت أمي بعرس أخي وزادت فرحتها بقُدومي. اصطف أهل الدُوار لتحيتي كبطل الأساطير القديمة.

باركت للعروسين وتمتمت لهما بدعوات بحسن المآب وصلاح الذرية ووفير الرزق. جلست أحكي لأهل الدوّار يوميات الحرب والبارود. بعد ذلك اصطف نفر من الرجال وقابلهم صف من النساء لترديد مقاطع قديمة من أحيدوس، تلك الرقصة الرسمية التي لا تستقيم الأعراس في الجنوب بدونها. بدأ الشاعر يتغنى بحُبّ الأوطان وحروب القبيلة القديمة التي خاضها الأجداد دفاعا عن الأرض والكرامة، بينما النساء يعبّرن عن إعجابهن بالزغاريد..

أيقظني صوت حامل الراديو، وهو يصرخ من شدة الألم، تأكدت أني لم أبرح حُفرة الرّابوني. كانت الشمس قد أشرقت، لكنها لم تتوسط كبد السماء بعد، فلا يصلنا منها سوى بعض الأشعة.

طلبنا من الحارسين الذين تم استبدالهما في وقت ما، أن يعطوه جرعة ماء. لكننا تلقّينا منهما نفس الجواب:

ــ ماكاين غير النّار الزرقة.

كنا نَطلب له جُرعة ماء مخافة أن يموت وهو عطشانا.

لا أعرف لماذا على المُحتضر أن يشرب جرعة ماء! حتى وإن كانت لن تنقذه من موت لازم، لدرجة أن الناس يتمنون لأعدائهم ألا يجدوا جرعة ماء عندما يواجهون سكرة الموت!

بقينا في تلك الوضعية حتى اقترب العصر. سمعنا هدير سيارتين قادمتين. أنزلوا إلينا أسيرين إضافيين جاؤوا بهما من تندوف. أحدهما من قلعة السراغنة والثاني من نواحي بولمان. هذا الأخير توفي رحمه الله سنة 1995، كانوا يعذبونه بوضع كيس ثقيل من الحمص على بطنه، ومن وقتها بدأت أعراض مرض ما تظهر عليه إلى أن مات.

أخرجونا من تلك الحُفرة الموحشة، وأخذونا إلى معتقل آخر رفقة آسرى آخرين. قيل لنا أن الأسرى سبق أن تم القبض عليهم منذ سنة تقريبا في أمڭالا.

المعتقل يسمى مكتب عمر ولد عْلي بويا في ذلك الوقت. تغيّر اسمه بعد ذلك إلى الدّخيل، لكن وإن تغيرت الأسماء، فإن المعتقل يتمتع بسمعة سيئة، وفيه عاش الأسرى صنوفا لا تُطاق من التعذيب.

كنّا وقتها أربعة وستون مغربيا في ذلك المعتقل الذي يشرف عليه هذا المسمى عمر ولد عْلي بويا. وفيه سمعت من معتقلي أمڭالا أن الرئيس الجزائري بومدين قد وقّع اتفاقا مع انفصاليي البوليساريو بتمويلهم مدة 5 سنوات، حينها فهمت تلك الجملة التي قالها ذلك الضابط وهو يراقب طريقة عجني للخبز في الصحراء!

كان بيننا ستة عشر أسيرا مغربيا تم اقتيادهم إلى معتقل خاص بمدينة البْليدة. معتقل تحت الأرض كانت قد شيدته السلطات الفرنسية لسجن المقاومين الجزائريين مُعارِضي التواجد الفرنسي. وذات ليلة خطب الحسن الثاني وقال ” إييه يا بُومدين. فرنسا بنات المعتقلات لتسجن فيها المجاهدين، وأنت تسجن فيها المغاربة”.

مباشرة في تلك الليلة تم شحنهم في طائرة عسكرية وتنقيلهم إلى معتقل عمرو ولد علي بويا. كان الأسرى يسمونه عْوِميرْ، لتصغيره رغم شدته وبطشه.

كان يصرخ فينا:

ـ نتُوما حْميرْ. نتُوما عبيدْ. أنتوما ماشي أحرار. تْيِّيوْ مع الماليك ومتقدروش تقرّبوه! واش ماقريتوش أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها.. أنتوما خوّافة، جبناء، حنا بغينا نحرّرُوكوم، ولكن نتوما حمير ما كَاتفهموش!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *