مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -8-

الحلقة الثامنة:

مصطفى باشا

يواصل عدي عليلوش سرد قصته في الأسْر، وما عاناه في تلك الأيام التي لم يستطع نسيانها:

في شهر رمضان من سنة 1977، أصابني داء السّل. كنت أسعل بشدة وبلا انقطاع. طلبت مرات كثيرة أن أُعرَض على الطبيب، فتماطل السجّان حتى بلغ بي المرض أيما مبلغ. لما فحصني الطبيب كتب لي دواءً، وأوصى بأن أنقل بأسرع وقت نحو المستشفى، انتظرت أن ينفذوا ذلك على وجه السرعة سيما وأني أُصبت بهزال شديد، ولم أعد أنم ليلا، أسعل طول الوقت وأتقيؤ دما وقيحا.. كلما ذكّرت ممرضا عسكريا من باب الواد بالتقرير الذي يوصي فيه الطبيب بنقلي للمستشفى كان يقول لي:
ــ “ياكما نسيتو ما درتو فينا في 63؟” ثم يتركني.
لم أجد في تلك الأيام الشقية سندا سوى ثلاثة من إخوتي المغاربة. إخوة استعبدنا السجان معا وآخَت ظروف الأسر القاسية بين قلوبنا. صرنا كما لو أنجبَنا رحِمٌ واحد. يقوم مصطفى تعيسات ابن صفرو بوضعي بين رُكبتيه كل ليلة كي أتمكن من النوم ولو قليلا. يُخرجني إيشُّو وعمرو لحسن من إِكْنِيوْن كل صباح للشّمس ويبقى بقُربي ساعة أو بعضها ثم يحملني نحو فراشي.
لم أكن أقوى على التحرك. كومة من العظام التي تجمعها جلود ضامرة بعيون جاحظة وأسنان بارزة. ثالث إخوتي الذين لم تلدهم لي أُمي؛ مكناسي يُدعَى حميد بغدادي. يُنادَى عليه كلما رغب ينادى عليه كلما رغب عمال المطبخ في تنظيف الخضر وتقشيرها لإعداد الغذاء للعسكر والمساجين.. كان يغامر بأن يختلس حبة أو حبتين من الطّماطم، يخفيها في ملابسه ويأتيني بها. بتلك الحبة أسُدّ الرمق وأحافظ على ذلك الخُيَيْط الهش الذي يربطني بعالم الأحياء. لم يكن بغدادي حاضرا عندما عُوقب ذلك الأسير بسبب علبة السردين، لإنه التحق بنا في غشت من سنة 1976؛ لكننا حكينا له ذلك مرات عديدة، وسمع قصة العلبة المختفية من أفواه كثيرة. لكن كل ذلك لم يمنعه من أن يأتي إليّ حاملا حبة طماطم أو حبتين.
كانوا إخوتي الذين كانوا يرعونني في قمة عجزي ومرضي وكنت أرى في عيونهم كلما نظرتُ إلى أحدهم إيمانهم كل ليلة بأنهم سيدفنوني في الصّباح، وتشرق.شمس اليوم الموالي وأنا ما أزال أسعل والقلب يأبى أن يتوقف عن النبض.
بعد أيام كثيرة من المرض والإصرار على الحياة جاء ممرض جديد مكان ذلك الذي ظل يكرّر علي لازمة 63 كلما ذكّره أحد بكومة العظام هاته التي لا تكف عن السعال، تلك الكومة التي كُنتها. عرضني ذلك الممرض العسكري على الطبيب، فوجدته نفس الرجل الذي فحصني آخر مرة.
سمعته يُخبر ذلك الجندي الممرض أنه سبق أن أوصى بأن أُنَقّل للمستشفى مرتين، واستغربَ كيف لم يُعجلّوا بذلك.
نُقلت يومهَا على وجه السرعة نحو مشفى صغير خاص بمرضى الربو والرئة. يوجد هذا المستشفى نواحي العاصمة الجزائرية واسمه تيزي، لكنه تابع للمستشفى الكبير مصطفى باشا. عرفت المكان واسمه عندما مررت رفقة حارسي بجانب سيدة تكلم أمها من هاتف عمومي داخل المستشفى وتخبرها بالمكان الذي تتواجد فيها وقتها.
لم تكن لدي فرصة لتوديع إخوتي ورفاقي في الأسر وشكرهم على كل ما فعلوه من أجلي، فقد لا أعود وقد لا ألتيقهم مرة أخرى، وأسوأ ما في الموت أن تتمنى لقاءً وتسلم بعدها روحك مطمئنا، ولا يُكتب لك هذا اللقاء. عندما تم نقلي كانوا هم في الشغل اليومي المفروض على الأسرى. ذلك الشغل المتعلق بالنظافة ومساعدة الطباخين في إعداد طعام المساجين والعسكر. الذي يكون في الغالب تنظيف الخضروات وتقشيرها.
قضيت هناك ثلاثة أشهر كاملة، ممددا على السرير في غرفة مطلة على الشارع، وحارس لا يبرح قُربي. لم يُصفّدني، لكنه كان يلازمني كظلي.. لا أحدثه ولا هو يسألني. يعرف مهمته لذلك يقوم بها في صمت. في أوقات الزيارة التي ينعم بها المرضى الممددين في الغرف المجاورة، لم يكن هناك أحد ليزورني، كُنت وَحيدا كالخطيئة. أنظر إلى رجال ونساء وأطفال بين الغدو والرواح، يحملون أطعمة وملابس لمرضاهم، وأنا ممدد على فراشي لا أحد يخصص سويعة من عمره لكي يتمنّى لي الشفاء أو يبتسم في وجهي.
حياة الأسر أفضل لي من الحياة في هذا المشفى الذي أعيش فيه منبوذا كقِطٍّ أجرب. لم أكن أشتهي طعاما أو هدية يحملها إلي قريب، بقدر ما تمنيت أن يزورني شخص ما. يسألني عن وضعي هذا اليوم. ولا أحد يزور هذا الجندي الراقد هنا في هذه الحجرة، لا أحد يزوره سوى الأمراض التي تتزاحم في جسده كما لو انقرضت الأجساد.
ذات يوم زارتني عائلة جزائرية. كان لهم مريض ينام بالغرفة المجاورة. لم نكن عادة نتبادل أي حديث في السياسة أو في أمور الواقع، كل ما نفعله عندما يخرج حارسي ليجلب القهوة لنفسه، أو ليدخن سيجارة قرب الباب هو أن نتبادل التحية ونتمنى لكلانا الشفاء العاجل. التقينا أول مرة ونحن ننتظر دورنا للكشف بعيدا عن غرفتنا. بعدها التقينا مرات عديدة قرب المرحاض المشترك بالصدفة، لم نكن نتحدث في السياسة ولا الأسر، نتمنى لبعضنا الشفاء العاجل ونتمتم لنا ولجميع مرضى المسلمين بدعوات بطول العمر والصحة الوفيرة.
تحدثنا مرات قليلة عن الأمراض التي تنخر جسدينا، واكتشف من لهجتي أني لست جزائريا، فأخبرته أني مغربي دون أن أشرح له وضعيتي.. ربما خشيت أن يتراجع عن تعاطفه معي، مثلما فعل أحد الأطباء في هذا المستشفى، إذ ما أن علم أني أسير مغربي حتى تغيرت معاملته معي وعاملني بجفاء ولا إنسانية.

أذكر أنه سألني بلغة بين الجد والهزل:
ـ ماذا فعلت حتى يُلازمك هذا الجندي؟
ـ لا شيء، أنا مغربي.
ـ مغربي وماذا تفعل هنا؟
ـ أُسرت في الصحراء المغربية. وجيء بي هنا لتداويني بعدما مرضت.
ـ أُداويك؟ الأجدر أن أغتصبك.
لكن زميلي المريض الجزائري لم يكن بوقاحة الطبيب وصفاقته. ما زلتُ أذكر جيدا عندما جاءت عائلته لتتفقد صحته. قدموا لي نصف طعامه عندما أَخبرهم أني مغربي جاءت به الصّدف السيئة إلى هذا المكان الذي لا يتمناه المرء لأشد أعدائه..
كانت رفقتهم طفلة صغيرة وجاءت لتلعب معي، كانت تمسك مجموعة المفاتيح بها مقص أظافر وهي العادة السائدة في المغرب والجزائر ذلك الوقت.
تناديني “أخي محمد”، وتحاول أن تذكرني بأشياء تعتقد أنها جمعتنا معا في حياة سابقة، وأنا لا أريد أن أخبرها بالحقيقة، أتمادى مع اعتقادها لعلي أساهم في فرحتها اللحظية. تتكلم وتحكي لي عن ذكريات لم أعشها وأنا أُحرك رأسي فيما يفيد الإيجاب.
عندما همّت تلك العائلة بالمغادرة تشبثت الطفلة الصغيرة بطرف ثوبي، وبقيت تبكي.
قالت إني أخوها محمد، وأنني يجب أن أذهب معهم للبيت أو تبقى هي معي. حاولنا جميعا أن نقنعها أنني يجب أن أبقى هنا حتى أتعافى ثم آتي بعد ذلك. تذكرت وقتها ذلك الصّحراوي الذي أصَرّ على أني ابن عمته في أول يوم تم أسري، لكن هذه الطفلة لا تشبهه، والبراءة تسطع في وجهها الجميل. لما همّوا بالمغادرة اغرورقت عيناي بالدموع، وأصرّوا عليّ أن أُخبرهم بما أشتهيه كي يأتوا لي به في المرة المقبلة. لهج لساني بالشكر وأنا أقول في نفسي إنّ ما أشتهيه أيها الكرام هو حريتي، وهي ليست بين يديكم ولا توجد في كل محلات المدينة كي تبتاعوا لي منها شيئا، فهي لا تقبل القسمة، تؤخذ كُلها أو تترك.
لكن ذلك اليوم كان مشهودا في أيام مكوثي في ذلك المستشفى. على الأقل شعرت فيه أن هناك من خصص دقائق من عمره لعيادتي.
بعد يومين من تلك الزيارة جاءني الطبيب وفحصني وقال لي:
ـ “الله يلعنك، أنت عامل كي الميزان. مرة تزيد مرة تنقص. ”
بعد الفحص قال لحارسي إنني مريض بالقلب، وأمر أن أُنْقَل إلى قسم أمراض القلب بمستشفى مصطفى باشا.
عدت إلى سريري، وفي الغد تم نقلي إلى القسم الخاص بمرضى القلب والشرايين. كانت غرفتي في الطابق الرابع، فسيحة تطل على البحر. نسيم البحر البارد أصابني بنزلة برد حادة، عُدت أسعل من جديد.
مكثت في تلك الغرفة المشرعة على البحر قرابة أسبوعين، فاقترح عليهم حارسي أن أعود إلى الغرفة التي جئت منها مع اشتداد سعالي. قبل أن تتم إعادتي للغرفة التي جئت منها، زارني شخص مجهول. اغتنم فرصة ذهاب حارسي ليجلب كأس قهوة في مقصف المستشفى أو بمقهى قريب. ولج الرجل غرفتي فجأة وبدأ يسألني بتتابع؛ “سميتك، منين جيتي؟ شحال هادي وأنت هنا؟ تاريخ أسرك، مكان أسرك وكم عددنا في الأسر؟”
كان السائل رجلا مرتبكا، أبيض البشرة نحيل الجسم. يضع نظارات طبية ويرتدي جلبابا رمادي اللون. كان حليق الرأس ويغطيه بقُبّ الجلباب.
أجبت على أسئلته كطفل يستظهر واجبا منزليا دون أن أسأله عن هويته. عندما خرج بأقل من دقيقة دخل حارسي يحمل كأس قهوة. سألني إن كان أحدٌ ما قد خرج من غُرفتي توا. لست أدري من أوحى لي أن أُنكر ذلك، خمنتُ أن يكون صاحب الجلباب حليق الرأس من المخابرات المغربية.
بعد أسبوعين في جناح القلب عُدت إلى مكاني الأول، لم أمكث فيه سوى بضعة أيام. كتب لي الطبيب وصفة دواء علي الالتزام بها سنة كاملة، وسمح بمغادرتي.
ركبت سيارة إسعاف، وانطلقت بضع أمتار، تم توقفت في قسم آخر لنقل قبطان ينادونه زكاي، يتم نقله كل صباح وإعادته كل مساء إلى زنزانته تحت الأرض بالبليدة، إذ يتلقى علاجا في قدمه التي أصابها طلق رصاصي.
وجدت رفاقي قد تصدّقوا بأغطيتي لأسير جديد من ورزازات، لأن المدة التي قضيتها في المستشفى جعلتهم يصلون عليّ صلاة الغائب اعتقادا منهم أني ودّعتُ هذا العالم الموبوء. لكن القلب يرفض إلا أن يواصل النبض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *