مجتمع

بورتريه: عبداللطيف الحموشي كاتم أسرار المملكة

عشية الأربعاء 22 أكتوبر 2014، كانت من المناسبات النادرة التي يظهر فيها عبد اللطيف الحموشي، المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني، بشكل علني، في العاصمة الإسبانية مدريد، وهو يتسلّم من كبار المسؤولين الأمنيين الإسبان «وسام الصليب»، الذي يعتبر أعلى وسام تمنحه المملكة للشخصيات الأجنبية.
في حفل التوشيح أكد المدير العام للأمن الإسباني إنغاسيو كوسيدو، أن بين البلدين تعاوناً مكثفاً وخاصاً، وأن إسبانيا محظوظة بـ»تضحية وعمل» الأجهزة الأمنية المغربية في مجال مكافحة الإرهاب، قائلاً: «المغرب بلد صديق وقوي، ويجمعنا به تعاون جيد للغاية في جميع المجالات»، وأضاف أن «الإرهاب يشكل التحدي الأكبر والخطر الذي يتعيّن على بلدان المنطقة مواجهته.ويأتي تتويج المسؤول الأمني استثنائياً، عكس الخطاب المعتاد للسياسيين الإسبان، يمينهم ويسارهم، الذي يصور المغرب دائماً كمصدر خوف، لا مصدر أمن للجارة الشمالية، إلا أن الأرقام التي أعلنت عنها الاستخبارات الداخلية في مجال محاربة النشاط الإرهابي تفسر ذلك.

فقد صرَّح مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية، عبدالحق الخيام، أن المغرب نجح، ومنذ 2002، في تفكيك 174 خلية إرهابية، 60 منها مرتبطة بالمنطقة السورية-العراقية، وإجهاض أكثر من 352 «مشروعاً تخريبياً، استهدف المساس بأمن المملكة».

ويُرجِع مصدر مطلع إنجازات السلطات المغربية في مجال مكافحة الإرهاب إلى مهندسها الأول عبداللطيف الحموشي، الذي اعتمد منذ تعيينه على رأس المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني خطة وقائية واستباقية، تعتمد بشكل كبير على العامل البشري، والدخول حتى في مفاوضات مباشرة مع الجماعات المتطرفة، بهدف حثّها على إجراء مراجعات فكرية، واستبعاد خيار العنف، والانخراط أكثر في العمل السياسي.

الإسلاميون.. مفتاح النجاح.
سنة 1993 دخل الحموشي إلى سلك الشرطة وعمره 27 سنة، قادماً إليها من كلية الحقوق، التي تخرج فيها سنة 1990. خلال دراسته الجامعية بمدينة فاس، وسط المغرب، تعرَّف الشاب على التيارات الأيديولوجية المتصارعة في ساحات الجامعة، خاصة اليساريين والإسلاميين المسيطرين على أنشطة الكلية.

في كلية الشرطة ظهرت مواهب الحموشي، كما يحكي المصدر ذاته ، فبسبب ذكائه وقدرته على التحليل والمتابعة، تم تعيينه مباشرة بعد تخرجه في مديرية مراقبة التراب الوطني.

في تلك الفترة كان الجهاز وكل الأجهزة الأمنية في البلاد تحت إمرة وزير الداخلية القوي إدريس البصري، الذي كان رجل ثقة الملك الراحل الحسن الثاني، ومهندس خططه الأمنية منذ الثمانينات. بعد سنة من تعيينه تتعرض مراكش جنوبي المغرب، إلى عملية إرهابية، استهدفت أحد أفخم الفنادق في عاصمة السياحة في البلاد، حيث قامت عناصر مسلحة بإطلاق النار على سيّاح، مما أدى إلى وفاة اثنين منهم.

ورغم عدم مشاركته في التحقيقات، فإنه أيقن وقتها أن نجاحه المهني مرتبط بشكل كبير بإتقانه لملف الجماعات المتطرفة، مرجعياتها الأيديولوجية، وتقسيماتها، وأبرز قياديها، ومجالات نشاطهم.

في ذلك الوقت اتَّهمت السلطات المغربية الجزائر بالوقوف وراء عملية مراكش، عبر تصدير عناصر إرهابية إليها، خاصة أن الجزائر وقتها كانت تعيش أحداثاً دموية، في إطار ما عُرف بالعشرية السوداء، وقامت الرباط بإغلاق الحدود مع جارتها الشرقية إلى اليوم.

ملك جديد.. عهد جديد.
سنة 1999 يتغير كل شيء في المغرب، ملك شاب يعتلي عرش البلاد، ويُعلن عن بداية عهد جديد، التغييرات تشمل حتى الأجهزة الأمنية، يتم استدعاء جنرال الدرك القوي حميد العنيكري، الذي عمل طويلاً في الإمارات، ليتولى زمام المخابرات الداخلية.

وحسب مصدر أمني فإن الهدف من وراء تعيين شخصية عسكرية على رأس هذا الجهاز الأمني المدني، هو إضعاف وزير الداخلية إدريس البصري، وربطه مباشرة بالقصر. وبمجرد تعيينه، أحدث الجنرال ثورة داخل الجهاز، أبرزها الاهتمام بالأطر الشابة وتحميلها المسؤولية، ومن بين هذه الأطر برز اسم عبداللطيف الحموشي.

أحداث 11 شتنبر 2001، في الولايات المتحدة تبين للعالم أجمع مدى وقوة وتنسيق الجماعات الإرهابية، وقتها يقوم المدير الجديد لإدارة مراقبة التراب الوطني بتوسيع علاقات التعاون والشراكة مع أجهزة الاستخبارات العالمية، من أجل تبادل الخبرات والمعلومات وتدريب الأطر المغربية على أحدث التقنيات.

وفي ليلة 16 ماي 2003، يعيش المغرب لأول مرة في تاريخه حدثاً إرهابياً بذلك الحجم، بمدينة الدار البيضاء، القلب الاقتصادي النابض للمملكة، يقوم 14 شاباً سنهم ما بين 20 و24 باستهداف عدة أماكن في نفس الوقت.

في البداية قتلوا حارساً في مطعم يملكه إسباني وهو مطعم إسبانيا «Casa de España» طعناً بالسكين، ثم اندفعوا داخل المبني، وفجَّروا أنفسهم في الزبائن، مخلِّفين حصيلةً ثقيلةً من القتلى، وصلت إلى 20 شخصاً، بعد ذلك وقع انفجار في فندق ليقتل البواب وحامل الأمتعة.

وبعد ذلك تم استهداف مراكز خاصة باليهود المغاربة، ومطعم إيطالي، ومقر القنصلية البلجيكية، لتخلِّف تلك الهجمات مقتل 12 من منفذي التفجيرات، ووفاة 31 مدنياً ورجلي شرطة، واعتُقل 2 من المهاجمين قبل أن يقوموا بهجماتهم، كما جُرح ما يزيد عن 100 شخص.

ليلتها تبرز الحاجة إلى الشاب المتخصص في الإرهاب والجماعات الإسلامية، ليشارك الحموشي فعلياً في التحقيقات الميدانية، وبفضل نجاحاته يتم تعيينه على رأس الخلية المسؤولة عن محاربة الإرهاب داخل المديرية، وبعد سنتين يتم تعيينه في دجنبر، مديراً للجهاز ككل وعمره 39 سنة، ليكون أصغر شخصية تتولى مؤسسة بهذا الحجم في تاريخ المغرب.

حوارات الحموشي مع الشيوخ
في حفل التخرج الذي يقام كل سنة بمعهد الشرطة، كان الحموشي يراقب ضباط الغد باهتمام، في مكانه لا يحاول لفت الانتباه. ذات المصدر وصفه بالرجل الكتوم الذي يكره الكلام، أما مجلة «Jeune Afrique» فصنّفته من بين 50 شخصية مؤثرة في إفريقيا، ووصفته بأنه ماكينة عمل دائم.

وخلال السنوات الأولى من تعيينه، ارتفع عدد الخلايا التي تم تفكيكها، والتي كانت في مجملها منبثقة عن تيارات السلفية الجهادية، إلا أنه في سنة 2007 تشهد الدار البيضاء مرة أخرى سلسلة تفجيرات تودي بحياة العديد من المواطنين.

يومها يفكر الحموشي في مقاربة جديدة، فبدل المراقبة الأمنية الميدانية والاعتقالات، يتم فتح باب الحوار مع شيوخ السلفية المعتقلين في السجن، وعلى رأسهم عمر الحدوشي، وحسن الكتاني، وعبد الوهاب رفيقي، الشهير بـ»أبي حفص»، إضافة إلى الشيخ محمد الفيزازي، ويتم الإفراج عنهم بعدها على مراحل، مقابل تبنّي مسار الإصلاح السلمي ونبذ العنف.

العامل البشري أولاً
في 28 أبريل 2011، أعلنت وزارة الداخلية المغربية أن الاعتداء الذي استهدف مقهى «أركانة» بمدينة مراكش يتعلق بعمل إرهابي ناتج عن انفجار قوي، بواسطة مادة متفجرة داخل المقهى. عدد قتلى الحادث حُصِر في 16 شخصاً، من بينهم 11 من جنسيات أجنبية، و3 مواطنين مغاربة. في حين بلغ عدد الجرحى 21، إصاباتهم متفاوتة الخطورة.

في 5 ماي 2011، أعلنت الوزارة نفسها أنه تم إلقاء القبض على ثلاثة مواطنين مغاربة، من بينهم المنفّذ الرئيسي للعملية الإرهابية؛ إذ أشار البلاغ إلى قيام «مصالح المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بتحريات دقيقة ومعمقة، مكّنت المصالح الأمنية من إلقاء القبض على ثلاثة مواطنين مغاربة، من بينهم المنفّذ الرئيسي لهذه العملية الإرهابية».
ومن الإشارات القوية للدور الذي قام به جهاز الحموشي في فك لغز تلك العملية، هو توشِيحه من طرف الملك محمد السادس بوسام العرش من درجة «ضابط»، وذلك بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لاعتلائه العرش، وهو توشيح غير مسبوق، لرجل استخبارات، في لقاء رسمي نقلته وسائل الإعلام الرسمية.
نجاحات الجهاز صاحَبتها انتقادات وُجِّهت لعناصره، وتتمثل في أنهم يقومون بعمليات اعتقال واحتجاز دون أن تكون لهم صفة «الشرطة القضائية». ولحل هذه الإشكالية، تم تقديم مشروع قانون بتغيير وتتميم القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية، يتضمن منح صفة ضابط الشرطة القضائية لمسؤولي إدارة مراقبة التراب الوطني.

هذه الخطوة حقَّق بها الحموشي فائدتين أساسيتين، حسب مصدر «عربي بوست»، الأولى إخراج عمل وإنجازات الجهاز إلى النور، والثانية إعادة الاعتبار للعامل البشري، الذي يضعه مدير الجهاز في هرم الأهمية خلال عملية جمع المعلومات والتحقيق في الملفات التي يشرف عليها.

وحسب المصدر، فإن الخطة الأمنية المغربية تمت ملاءمتها وعصرنتها حسب طبيعة هذه التهديدات الإرهابية، مما مكَّن من مراقبة شاملة للتراب الوطني والحدود، وإدارة ناجعة لتدبير ونقل المعلومات والاستخبارات التي تسمح بالتدخل في الوقت المناسب في خطوات استباقية، والدليل هو عدد الخلايا المفكّكة بنجاح قبل أن تنفذ عملياتها.

هذه النتيجة الإيجابية يردُّها مصدر «عربي بوست» إلى العمل الجاد المبذول من قِبل جميع مصالح الاستخبارات، خاصة تلك المرتبطة بالتحليل والتكوين، إلى جانب التجربة المكتسبة للأطر الأمنية المغربية، التي مكَّنت من المعرفة الجيدة بطبيعة التهديدات.

وفي 15 ماي 2015، يعيِّن الملك محمد السادس، عبداللطيف الحموشي، ليجمع بين منصبه في المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والإدارة العامة للأمن الوطني، أي أنه «يصبح على رأس جهاز أمني محوري في المنظومة الأمنية للبلاد، يجمع بين الاستخبارات والمراقبة، ومحاربة التجسس والأمن» يشرح مصدر «عربي بوست».

وبحسب مراقبين، فإن تعيين الحموشي جاء لتصحيح أخطاء المديرية العامة للأمن الوطني، التي راكمتها في الشهور الماضية، لا سيما أن مديرية مراقبة التراب الوطني هي أهم رافد للمعلومات الاستخباراتية التي تعتمد عليها الإدارة العامة للأمن الوطني في عملياتها.

هذا التعيين أيضاً، بحسب المراقبين، إيذان بإعادة هيكلة الإدارة العامة للأمن الوطني، تماماً كما فعل الرجل بالمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، التي فُتح في عهده مقرها للبرلمانيين؛ بل أصبحت تدخلات المكتب المركزي للبحث القضائي، المنبثق عن المديرية، يتم تصويرها بالفيديو، وضمن ذلك المرتبطة بتفكيك الخلايا الإرهابية ونشرها مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *