مجتمع

بعد إرتفاع مؤشراته .. من يصنع الفقر بالمغرب؟

تكاد تضمر الدراسات العلمية الميدانية حول الفقر بالمغرب ضمورا كليا، إلا أن بعض المؤشرات الملحوظة والبادية للعيان تفرض نفسها على الإنسان البسيط، دون حاجة إلى الباحث المتخصص

تلك المؤشرات تبين بجلاء أن الفقر في المغرب راسخ ومتجذر، ويكفي أنه بمجرد اعتلاء الملك محمد السادس على العرش، أطلق عليه “ملك الفقراء”، وهو نعت يستبطن أمرين أساسيين، أولهما : أن الفقر موجود بكثرة في المغرب، ولولا تلك الكثرة لما كان لذلك الوصف معنى. ثانيهما : أن الملك سيولي كبير جهد لمحاربة الفقر وتجلياته.

الآن، وبعد حوالي عشرين سنة من رفع هذا التحدي، يبقى الفقر سيد الميدان، بل في تزايد وتصاعد، رغم ما تعرفه الصالونات المخملية من حديث عن المبادرات الملكية، والمشاريع الحكومية، وبرامج المجتمع المدني في هذا المجال، والسؤال هو : كيف نصنع الفقر ؟ ومن يصنعه ؟

لن أبالغ إذا قلت، إن بعض المشاريع المحارِبة للفقر كانت مسهمة بشكل قوي في صناعته وضمان استمراريته، لأن محاربة الفقر بدعم قليل في مجال تربية الأرانب أو الماعز أو تعاونية هنا أو هناك، لا يؤدي إلا إلى نقل الإنسان من مستوى معين في الفقر، إلى مستوى آخر منه، ولا يخرجه بالضرورة من دائرة الفقر.

ومن جملة المشاريع التي يفخر بها المغرب، القدرة على جلب الاستثمارات، وإنشاء المعامل والمصانع المبثوثة في مناطق صناعية بعينها، كطنجة والقنيطرة، وهي وحدات إنتاجية قد يكون لها أثر على مستوى رفع الصادرات نحو الخارج، أو قد يكون لها أثر على مستوى مؤشر أخر، لكنها في المقابل، تسهم بدرجة قوية في صناعة الفقر، وصناعة المشاكل المعقدة والمركبة ذات الصلة به.

إن العمل في مثل هذه الوحدات الإنتاجية لا يكون في الغالب إلا بالأجر المنخفض (السميك)، وبالرجوع إلى كتاب “الاستبعاد الاجتماعي” الذي أسهم في تحريره مجموعة من الباحثين، تصف أبيغيل ماكنايت العمل المنخفض الأجر بقولها : هو إطعام الفقراء بالقطارة، وهذا وصف دقيق جدا، من باحثة متخصصة في اقتصاديات العمل، وهو وصف يجلي مسألة ذات شأن، وهي أن العمل المنخفض الأجر لا يغني صاحبه، ولا يساعده على الخروج من دائرة الفقر، بقدر ما يكبل قدراته، ويفرض عليه بدوره الإسهام في إنتاج الفقر أيضا، كما بينته الباحثة كاثلين كيرنان، مؤلفة كتاب “الأمومة الوحيدة في القرن العشرين”، والأمومة الوحيدة تعني انعدام الأب.

تبين كاثلين كيرنان في دراستها السوسيولوجيا حول الحرمان والديموغرافيا، أن معاناة الفقر في الطفولة، تؤدي إلى سلسلة من النتائج، منها تدني مستوى التمدرس، والإنجاب المبكر بدون أب، والعيش في سكن اجتماعي، والدخل المتدني في سلم الأجور.

وأضافت الباحثة إلى أن هذا الدخل المنخفض المنظِّم لحالة الفقر، يسهم بنسبة كبيرة في حصول الطلاق، وهو ما يعني الدخول في دورة فقر جديدة، لأن الأبناء الذين مروا بتجربة انفصال آبائهم – بحسب دراستها الميدانية – ينخفض مستواهم الدراسي، ويشتغلون في الكبر بأعمال أقل تميزا عن أعمال نظرائهم الذين نشأوا في كنف والديهم. أما الفتيات اللائي تجرّعن مرارة انفصال والديهن، فيزداد لديهن الاحتمال في تبكير ولوج عالم العلاقات الجنسية، والولادة المبكرة، وهو ما يؤدي إلى استمرارية الفقر في نسلهن.

إذن، نحن أمام صناعة الفقر، واستمرارية الفقر، وإعادة إنتاج الفقر.

تختص هذه الدراسات المشار إليها بالمجتمع البريطاني، مع ما تعرفه بريطانيا من إعانات للفقراء، وتوفير مجموعة من الخدمات، كالتعليم والتطبيب، وغير ذلك.

إذا انتقلنا من الوضع البريطاني إلى الوضع المغربي، فإننا نجد الفجوة بيّنة، تحُول بيننا وبين ممارسة قياس المجتمع الثاني على الأول، لِما تقرر من منع القياس مع وجود فارق واحد، فما بالك بالفوارق المتعددة بين المجتمعَين.

منذ اعتلاء محمد السادس على العرش، تم التركيز في المغرب على مدينة طنجة، وتوطين مجموعة من المشاريع بها، وهو ما تبلور فيما بعد بما سمي “طنجة الكبرى”، الحدث الذي هلل له معلقو النشرة الإخبارية بدار البريهي، وغيرهم من “المحللين” الذين أتيح لهم الكلام حينها، وهو ما يتيح لنا طرح الأسئلة الآن : هل أنقذت “طنجة الكبرى” الشباب من الفقر ؟ أم أدخلتهم في سلسلة إنتاج الفقر ؟ وقيدتهم وكبلت قدراتهم ومنعتهم من مغادرة دائرة الفقر ؟ وما هي الآثار الاجتماعية لمشروع طنجة الكبرى ؟

ترتكز “طنجة الكبرى” على دعامات أساس، أهمها * الوحدات الصناعية والإنتاجية * السكن الاقتصادي * توسيع الشبكة الطرقية.

هذا المشروع ترتبت عنه عدة نتائج، منها :

– جلب اليد العاملة الشابة من مناطق بعينها، كأقاليم سيدي قاسم وسيدي سليمان وخنيفرة وغيرها.

– تشتغل هذه اليد العاملة في الغالب بالحد الأدنى للأجر، وهو ما يؤهلها للخروج من دائرة العطالة إلى دائرة الفقر.

تحتاج هذه اليد العاملة إلى السكن، فنكون حينئذ بين عدة حالات، أهمها :

** الحالة الأولى : حالة العزاب، الذين يضطرون إلى كراء جماعي لشقق أو دور، لضعف قدراتهم الشرائية. وفي بعض الحالات، يتم اللجوء إلى كراء مختلط (إناث – ذكور).

في هذه الحالة، تكثر النزاعات بين شركاء السكن الواحد، خصوصا إذا أدركنا أن غالبيتهم غير متمدرسين، أو تلقوا تمدرسا متدنيا. وإذا كان السكن مختلطا، فإنه تترتب عليه مشاكل اجتماعية وأخلاقية خطيرة، منها اللجوء إلى الإجهاض، أو التورط في الولادة أحادية الأبوين، أو اللجوء إلى الزواج الاضطراري.

** الحالة الثانية : حالة المتزوجين،

حين يقْدم صاحب الأجر المتدني على الزواج، فإنه يواجَه بصعوبات مادية، تفرض عليه أن يُقدِم على الزواج بنظيرته في العمل، وهي بالضرورة صاحبة أجر متدني أيضا، ولكي يفرّا من الكراء، يلجآن إلى الانخراط التشاركي في قروض السكن الاجتماعي، ومع ضغط الواقع وشدته، يلجأ الكثير منهم إلى الطلاق، وهو ما يؤكد أطروحة الباحثين البريطانيين المومأ إليها سابقا، فيتم اللجوء إلى بيع المسكن المشترك، مع ما يترتب عن ذلك من خسائر، وقد يتعرض الأبناء إن وجدوا لعواقب هذا الطلاق.

في الحالتين معا، نجد أن العمل بأجر منخفض يؤدي إلى مشاكل نفسية واجتماعية بالجملة، دون أن ننسى تعميقه وترسيخه لمسألة الفقر وضمان استمراريته. مع مراعاة مسألة في غاية الأهمية، أن أبناء هذه الشريحة الاجتماعية تعاني حرمانا على عدة مستويات، حرمان من وسائل اللعب، حرمان من تمدرس متميز، حرمان من السفر والترويح، إلخ أنواع الحرمان.

ومع مرور الزمن، يصعب على أصحاب الدخل المتدني مغادرة العمل واللجوء إلى آخر أفضل منه، سواء على سبيل الإجارة أو التشغيل الذاتي، لأن البنية الاقتصادية لا تساعد على ذلك، فيستمر العامل في دائرة الفقر، ويتعمق الفقر أكثر بعد التقاعد، لاعتبارين رئيسين، أولهما : نظام احتساب المعاشات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ثانيهما : عدم تصريح كثير من المشغّلين بالأيام الحقيقية لعمل الأجير.

إذن، لا مناص لأصحاب الأجر المتدني إلا العيش في الفقر طيلة فترة العمل، وبعد التقاعد، مع الغرق في المشاكل الاجتماعية والنفسية، دون أدنى مساعدة من قبل الدولة المغربية.

هذه ليست قراءة عدمية لمشهد وردي، بل هو واقع رمادي حزين وبئيس، نورد مثالا لأحد ضحاياه.

قبل أيام، انفجرت قنينة أو قنينتين غازيتين في معمل بالقنيطرة، وترتب عن ذلك وقوع عدد من الضحايا، وأضرار تبدو جسيمة في المعمل، ولما استجوب أحد المواقع الإلكترونية أحد العمال الحاضرين ليحكي عن الانفجار وما تلاه، وجدها العامل فرصة ليحكي عن مأساته الشخصية، (انفجر أمامه بدل أن يتحدث له عن الانفجار) حيث حكى للموقع عن ظروف الاشتغال القاسية، وعن مستقبله الآن بعد تضرر المعمل، وعن سومة الكراء، ومصاريف العائلة، إلخ. وتضمن تصريحه مما له علاقة بموضوعنا، أنه يتقاضى 13 درهما عن كل ساعة عمل، وأنه يشتغل سبع ساعات، وبعملية حسابية، بعد حذف يومي السبت والأحد، نجد هذا العامل يتقاضى حوالي 2000 درهم شهريا.

هذا الأجر الهزيل والزهيد، يفرض عليه وعلى أمثاله الكراء في أحياء البؤس، ويفرض على أبنائه تمدرسا متدنيا، ويفرض عليه وعلى أبنائه تطبيبا في مستشفيات عمومية نعرف مآسيها وأخبارها، وعلى العموم، يفرض عليه تفقيرا، ويؤبد عليه فقره.

ولعل شبابنا على وعي بهذا الواقع، وهو ما جعلهم يتتبعون السياسة العامة للجارة الشمالية إسبانيا أكثر من اهتمامهم بالسياسة العامة لحكومتهم، وما أن علموا بوجود شخص يساري على رأس الحكومة هناك، وفي نيته وضع خطة لتمكين المهاجرين من أوراقهم النظامية، حتى اشتدت الوطأة على قوارب البحر الأبيض المتوسط، وكان فصل الصيف فصل الهجرة بامتياز، هذه الهجرة التي تحولت جذريا في بعض تمظهراتها، فصارت علنية بدل أن تبقى سرية، وخرج بسببها الشباب إلى احتجاجات جماعية للمطالبة بالهجرة المجانية، بشعار تغييري بامتياز، وهو شعار “الشعب يريد”. هذا الشعار الذي تحول من المطالبة بإسقاط نظام سياسي (تونس ومصر) إلى المطالبة بإسقاط نمط وقوانيين الهجرة (مرتيل).

“الشعب يريد الحريك باطال”. هذا الشعار يجب ألا يمر بسرعة على المحللين الاجتماعيين، وعلى الفاعلين السياسيين، والشركاء النقابيين.

الفقر أو التفقير في المغرب، ليس حالة منعزلة، بل هي حالة معقدة ومتشابكة، ترتبت عنها ما يسمى بظاهرة الاستبعاد الاجتماعي، حيث يتم استبعاد الإنسان قسرا عن المجتمع الذي ينتمي إليه، وللاستبعاد عدد من التجليات، منها الاستبعاد الداخلي، ويتجلى في عدم المشاركة السياسية، والعزوف عن الانتخابات، وعدم الانخراط في الهيآت السياسية والنقابية، إضافة إلى عدم التفاعل الإيجابي داخل الأسرة أو العمل أو المجتمع. والاستبعاد الخارجي، ويتجلى في المحاولات الحثيثة للهجرة خارج الوطن (هجرة العاطلين، هجرة العمال، هجرة الأطر).

هذه التجليات ليست سوى نُذر يجب الالتفات إليها وتحليل مؤشراتها ومعالجة إشكالاتها بشكل جذري، لأن المقرر عند الباحثين المختصين أن الاستبعاد الاجتماعي يهدد الاستقرار الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *