المغرب الكبير | هام

عن الجزائر وحراكها.. وأمور أخرى

من الواضح أن ما يحدث في الجزائر من حراك شعبي عفوي، منذ 22 فبراير الماضي، ما يزال يستأثر بصدارة الأخبار اليومية والأحداث الكبرى على الساحة المغاربية والمنطقة العربية، ويرخي بظلاله الثقيلة على مآلات الأفق القريب والمتوسط في هذا البلد الجار والشقيق.

كيف ذلك؟

إن التطورات المتسارعة التي تشهدها الجارة الشرقية للمملكة، تتراوح ما بين تعنت المسؤولين وتهديدهم، وإصرار الشعب وعزيمته على المضي قدماً في مسار إنتزاع كرامته ونيل حقوقه المشروعة والرقي بالجزائر إلى مصاف الديموقراطيات الناشئة.

قد لا يكون من الأساسي أن نعرف ما يدور في الساحة الداخلية لهذا البلد، بقدر ما يهم أن نعرف ردود فعل ومواقف القوى الغربية العظمى وخاصة تلك التي لديها مصالح إستراتيجية بالغة الحساسية والتعقيد في المنطقة. والمؤكد، حتى الآن، أن هذه المواقف لا ترقى إلى ما تصبو إليه هذه الملايين من الجزائريين الذين يصدحون ملء أفواههم مطالبين بضرورة إحداث قطيعة جذرية مع ستة عقود من استباحة كاسحة للموارد الطبيعية، ورهن قاتل لمستقبل ملايين الشباب من جراء الإمعان في المراهنة على دعم “قضايا” خاسرة ومكلفة سياسياً ومالياً بشكل لا يخطر على بال أي متتبع.

المتتبع لما يجري يستنتج أن القوى العظمى اختارت الإكتفاء بالتأكيد على “حق الشعب الجزائري في التظاهر السلمي”، وما شابه ذلك من تعابير رنانة ومصطلحات فضفاضة لا تقول شيئاً، دون أدنى إشارة مباشرة أو غير مباشرة إلى احترام إرادة الشعب الجزائري في التغيير السلمي وفرض منطق التداول الديموقراطي على السلطة، وهذا ما يشكل خيبة أمل كبيرة توضح بأن ما يهم الدول الغربية العظمى هو مصالحها ومن يَضْمَنُهَا على حساب كرامة المواطنين الجزائريين وحقهم في العيش الكريم والتوزيع العادل للثروات.

وإذا كان حكام الجزائر الفعليون يراهنون على عامل الوقت لإخماد نار التظاهرات السلمية والحاشدة من خلال أساليب عفى عليها الزمن من وعيد وتهديد بمآلات الضياع والدمار (العشرية السوداء 1992/2002)، واقتراح أنصاف الحلول كتنظيم إنتخابات في غضون سنة، وكأن عبد العزيز بوتفليقة يرجو بل يتوسل شعبه أن يمنحه فرصة الموت وهو في منصب رئيس الجمهورية، وأن يحظى بمراسم تشييع الجنازات التي تليق بالرؤساء، وكأنه يتوقع أن يرحل عن عالمنا في أقل من سنة بما يُخَلِّدُ ذكرى وفاته كواحد من الزعماء العظام والقادة الكبار؟!

ومن الجلي أن جزائر 2019 هي أمام سيناريوهات تعد على رؤوس الأصابع، وهي سيناريوهات قد تنتهي، وهذا هو الأرجح، بإسقاط النظام وزبانيته، وإن كان البعض يتوقع وقوع إنقلاب عسكري يضحي بشخص بوتفليقة مع الحرص على الحفاظ على هيكلة نظام الحكم وتغيير الرأس فقط لا غير. بيد أن هناك من يرى أن انتقالاً “سلمياً” قد يكون الحل الأوفر حظاً لتأسيس “مجلس وطني”، مكون من شخصيات مدنية وعسكرية، يضمن انتقال السلطة إلى جهة منتخبة في غضون شهور. غير أن التاريخ أثبت فشل مثل هذه المبادرات في الجزائر، وهو الفشل الذي جسدته تجربة تأسيس “المجلس الأعلى للدولة” بعد إرغام الرئيس الشاذلي بن جديد على الإستقالة سنة 1992.

على خلفية هذا الفشل ودروسه العميقة، يبقى التغيير هو سيد الموقف، وهذا يعني المرور عبر محطة إنتخابات شفافة ونزيهة تبدأ، ربما، بتنظيم الإستحقاقات التشريعية وتليها في مرحلة لاحقة محطة إجراء الإنتخابات الرئاسية.

لقد سبق وأشرنا في المقال السابق المعنون ب (إلى حكام الجزائر: اتقوا الله في شعبكم.. وزمن “الحكرة” قد ولى. موقع “الدار”، السبت 2 مارس 2019)، إلى تفكك ما يسمى ب”الدْجْمَاعَة” وتخبطها الكبير أمام قوة وإصرار الشارع، وقلنا إن عبد العزيز بوتفليقة أصبح “أصلاً تجارياً” يستغله المتحكمون الحقيقيون في صناعة واتخاذ القرار، وهو ما تأكد في الأيام الثلاثة الأخيرة بعدما راجت بقوة أخبار شبه مؤكدة عن اختفاء الرئيس العليل من المستشفى الجامعي في جنيف، وانتقاله إلى وجهة غير معروفة، وهو ما دفع بعض المواطنين الجزائريين إلى رفع دعوى قضائية يتهمون فيها عائلته باختطافه.

وقد سبق لمراسل القناة التلفزيونية الفرنسية (TF1) أن أثبت، بالصوت والصورة، تواجد ناصر (الأخ الأصغر لبوتفليقة) بالمستشفى السويسري الذي كان خلال الآونة الأخيرة محطة إتصالات كثيفة من طرف العديد من الجزائريين ل”الإطمئنان” على رئيسهم.

وهذا التخبط الذي تعيشه “الدْجْمَاعَة” تؤكده الخرجات غير المنسقة لحكام الجزائر النافذين الذين لازالوا يعتمدون نفس الأساليب ويطرحون “نفس الحلول” لما يعتبرونه أزمة ناتجة عن مؤامرة قد تكون جهات خفية وراءها، وما استعانتهم بورقة محروقة إسمها رمطان لعمامرة ومنحه صفة “وزير دولة، مستشار دبلوماسي لدى رئيس الجمهورية”، إلا دليل على أن “الدْجْمَاعَة” لا تمتلك خيارات من أجل القفز على هذا الحراك الشعبي، ومحاولة إظهاره على غير ما يبدو عليه في الواقع.

رمطان لعمامرة الذي خرج من الباب الصغير بسبب فشله الذريع في إدارة دفة الدبلوماسية الجزائرية، والمعروف بخرجاته الغير متزنة، دشن تحركاته بلقاء مسؤولين أوروبيين في محاولة لحثهم على عدم اتخاذ أي موقف قد يضر ب”السيناريو المسطر” لمواجهة المظاهرات الحاشدة والمنتشرة في كل أنحاء البلاد.

الشخص نفسه الذي قِيلَ إنه نُودِيَ عليه ليقوم مقام بوتفليقة، لن يستطيع أن يُقْنِعَ شركاء الجزائر بالوضع الحالي وستكون نهاية مهامه في القريب العاجل وفق توقعات جدية وذات مصداقية، وبعدها سيعود إلى تقديم “استشاراته” لصالح مجموعة الضغط التي تحمل إسم (Crisis Group) ومقرها في بروكسيل.

لحكام الجزائر نقول مرة أخرى: اتقوا الله في شعبكم، فزمن “الحكرة” قد ولى، واتركوا شعبكم يقرر مصيره بنفسه، أَوَلَسْتُمْ ممن “يؤمنون” بحق الشعوب في تقرير مصيرها؟؟!!

أمور أخرى.. والأمن الإجتماعي 

حديثنا عن الجزائر لن يشغلنا عن التطرق لبعض هموم الوطن بعد الزلات الكبيرة والأخطاء القاتلة المرتكبة في التسيير الحكومي، وخاصة تلك المسجلة على مستوى القطاعات ذات الحمولة الإجتماعية الثقيلة.

أجل، لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى بعد الخرجات غير الموفقة والإجراءات الإرتجالية، واعتماد منطق المحسوبية والعلاقات الزبونية والولاءات الحزبية على حساب منطق الكفاءة والإستحقاق والتخصص وقيمة النتائج المحققة على أرض الواقع.

مناسبة هذا الحديث، والمناسبة شرط كما يقال، ما أصبحت تتخبط فيه بعض القطاعات الوزارية كالتعليم والتكوين المهني والصحة والسكن وسياسة المدينة، فبدل أن تبشرنا هذه الوزارات بإجراءات عملية وتدابير إستباقية تروم النهوض بالمستوى الإجتماعي للمغاربة بما يحفظ لهم الكرامة والعيش الكريم، بِتْنَا لا نطلع على أخبارها إلا وهي مقرونة ولصيقة بالإحتجاجات والوقفات والتنديدات بقرارات يبدو أنها لم تأخذ حقها لا في التفكير المتأني ولا في التشاور الرصين، وهنا يتم إلحاق الضرر بمصلحة المواطن المغربي.

أكثر من ذلك، يمكن القول – بدون مبالغة – إن أخبار “وجبة” التعيينات الخاضعة للمحسوبية والولاءات السياسية الضيقة، أضحت الرياضة المفضلة لدى الوزراء المعنيين بهذه القطاعات الإجتماعية المهمة، متناسين أن العهد الجديد الذي دشنه جلالة الملك محمد السادس منذ اعتلاء عرش أسلافه المنعمين، ينتصر دائماً للبعد الإجتماعي وذلك من خلال مبادرات تصب كلها في مصلحة المواطن.

وإذا كان هَمُّ بعض الوزراء ينحصر في الإغداق السمين على بعض المنابر كي يظهروا في أحلى صورة وأبهى حلة، فإن المغاربة، وعلى رأسهم ملك البلاد، ينتظرون من هؤلاء المسؤولين أن يقدموا للشعب ما يصبو إليه من تحسين حقيقي لأوضاعه المعيشية، وولوج ملموس للخدمات الإجتماعية، وتمكين من تكوين علمي وأكاديمي ومهني يضمن لغالبية أفراد الشعب مكانة لائقة في النسيج المجتمعي، وليس الإنشغال بإسناد المسؤوليات المركزية والجهوية والإقليمية لمن يبرهن على الولاء والإنتماء الحزبي، حتى ولو تعلق الأمر بمن تم إعفاؤهم بسبب التقصير في أداء المهام أو لأسباب أخرى، وإرجاعهم مجدداً إلى مسؤوليات أكبر وأكثر حساسية، والأمثلة في هذا الصدد بغير حصر.

إستنادا إلى هذا الواقع المرير الذي يتحمله المغاربة، يمكن أن نتساءل: ألا يتطلب الأمر تفكيراً جدياً في منح الوزارات ذات البعد الإجتماعي الوازن صفة “وزارات سيادة” بدل تركها تئن تحت وطأة الأخطاء القاتلة للتدبير الحكومي بصيغته الراهنة والمترهلة؟

وعلينا أن نشدد على أن الوزارات الإجتماعية تكتسي حساسية بالغة وأهمية قصوى بالنسبة لعموم المواطنين، ودورها أكثر من مهم في استتباب وتوطيد الأمن الإجتماعي للمملكة.

البقاء للأصلح، والمسؤول الذي يقصر في عمله يحاسب. هكذا يقول مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” كما هو منصوص عليه في الوثيقة الدستورية. ولنا عودة بالتفصيل لهذه المعضلة.

زهير الداودي صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *