آراء | هام

كورونا.. الوطنية والجهوية

في ظل التكهن بانتهاء حقبة اقتصاد العولمة حيث هيمن مبدأ تخفيض التكلفة و استغلال اليد العاملة الرخيصة في الدول الفقيرة ،و ما صاحب هذا المبدأ من تطوير نظام المناولة و تمركز الانتاج العالمي في قطب واحد (الصين) و تمركز النمو الافتصادي العالمي في ذلك القطب الواحد حتى في عز الازمات المالية و الاقتصادية اللتي عصفت بالعالم غير ما مرة.

و في ظل ما صاحب هذا المبدأ ايضا من مبادلات تجارية مبالغة وحركة ملاحة بحرية مبالغة حيث تنتقل نفس السلعة عشرات المرات حول الكرة الارضية منهكة بذلك التوازن البيولوجي للبحار والمحيطات .

و في ظل التكهن ايضا بانتقال نظام العولمة ، بعدما استفاقت امريكا و معها دول العالم الى خطورة هيمنة نظام قطب الانتاج الواحد المتمركز في الصين على اقتصادات الدول المتقدمة والفقيرة على حد سواء ، و التكهن بانقسام القطب الانتاجي الواحد (الصين) الى اقطاب وطنية يسيطر فيها هاجس تأمين الإنتاج والصناعات الضرورية داخل البلدان و ضمان الاستقلال و الحماية قدر المستطاع من التقلبات المالية و السياسية و شتى العوامل الخارجية ..

و في ظل التكهن كمرحلة اولى باستبدال مبدأ المناولة و تخفيض التكلفة و نظام العولمة و هيمنة القطب الانتاجي الواحد ، بنظام جدبد أساسه اللاتمركز و الاستقلال الوطني للانتاج و كذلك الاستهلاك ، سيطغى خلالها الحس الوطني كهاجس رئيسي مهما ارتفعت تكلفته مقارنة مع نظام القطب الواحد المبني على التكلفة المنخفضة .. و ستتوجه السياسات و الاستثمارات الوطنية لغالبية دول العالم نحو دعم الانتاج المحلي و تدوير عجلة الاقتصاد الوطني و الاستهلاك الداخلي كحل وحيد كفيل بإخراجها من ازمة الركود الاقتصادي و ورطة البطالة ، و ستتجه فيها السياسات الاجتماعية نحو استحضار مشاعر المسؤولية الوطنية كقناة لامتصاص التوتر الشعبي المصاحب للازمة الاقتصادية ..

ثم ينتقل المشهد العالمي لاحقا من نظام الاقتصاد الوطني المرتكز اساسا على الاستقلال في الانتاج و الاستهلاك كمرحلة اولى ، الى ظهور اقطاب جهوية كمرحلة لاحقة ، تكون فيها التكتلات مبنية على الجوار و القرابة الجغرافية كعامل رئيسي ..

ستعمل امريكا على توطيد تعاملاتها التجارية مع كندا و المكسيك أولا ، ثم دول امريكا اللاتينية (البرازيل، الارجنتين..) ، و ليس ابدا من المستبعد ان نشهد قريبا مصالحة تاريخية بين امريكا و عدوها التاريخي كوبا .. فالمصالح ستحتم على امريكا ان تراهن على تنمية دول الجوار بما فيها اعداء الأمس من بقايا المعسكر الشرقي ..

و ستتكتل دول آسيا بريادة الصين في توحيد اقتصادها و تكتيل اسواقها ، و تخلق بذلك السوق الآسيوي الضخم الذي يغنيها عن انسحاب امريكا و اوروبا من مذكرة الطلبات على المنتوج الصيني .. و تكون قطبا قويا تتركز فيه الثروات و العيش الرغيد ، و يستمر فيه التفوق العلمي و التكنولوجي ..

و تتوجه الدول النامية الجادة (المغرب مثلا)  نحو تحقيق اكبر قدر من الاستقلال في الانتاج الضروري لاسواقها الداخلية ، و تحقق بذلك و لو متأخرة ، نهضتها الصناعية الداخلية كبديل للعهد السابق حين كانت تتكل فيها على الاستيراد و الاستهلاك عوض الانتاج و التصنيع .. و لكنها ستستفيد من المنافسة الشرسة بين القطب الانتاجي الآسيوي و القطب الانتاجي الامريكي الجديد ، بالخصوص فيما يتعلق بالموارد الطبيعية و المواد الاولية ..

اود ان اؤكد على نقطة لا بد من الانتباه اليها، و دعوني اوضح ابجديات هذه النقطة ﻷنها بيت القصيد والنقطة الفاصلة بين نجاح السياسات المستقبلية المبنية على الاستقلال الوطني من فشلها ..  وصدقوني هذه الكلمة الصغيرة ستكون هي كلمة السر و عرق الحرب (le nerf de la guerre) و الرأسمال الحقيقي الذي ستتمحور حوله كل السياسات العمومية العالمية في المرحلة المقبلة.

كلمة السر هذه هي : السوق الداخلي ..

ماذا تعني هذه الكلمة الصغيرة : السوق الداخلي؟ .. و كيف يتجسد السوق الداخلي على ارض الواقع؟ .. و كيف سيكون السوق الداخلي محور السياسات العمومية؟ .. و ماذا يعني كل هذا بشكل عملي؟ و لماذا هي كلمة جوهرية؟ ..

السوق الداخلي يعني بشكل ملخص عدد المواطنين الذين يتوفرون على قدرة شرائية ، بخلاف سوق الصادرات التي تستهدف المستهلك الخارجي ..

وبشكل غير ملخص فهذه الكلمة تختزل كلمتين اثنين : اولها المستهلك و ثانيها القدرة الشرائية ..

و بشكل اقل تلخيصا فالكلمة الاولى (المستهلك) تعني عدد المستهلكين (المقاربة الكمية) من جهة ، و نوعية المستهلكين (المقاربة النوعية) من جهة اخرى .
هذا يعني بشكل عملي المستهلكين الوطنيين و عددهم ، ثم توزيعهم حسب النوع سواء تعلق النوع باختلاف الجنس او باختلاف الفئات العمرية أو باختلاف الفئات الاجتماعية (الطبقة الغنية ، الطبقة المتوسطة و الطبقة الكادحة) .

وبشكل اقل تلخيصا ايضا ، فالكلمة الثانية و هي كلمة القدرة الشرائية مرتبطة بالمدخول الفردي .

و بشكل مبسط و حتى لا ننزلق في نفاصيل مملة ، فالسوق الداخلي يعني عدد المستهلكين المتوفرين على القدرة الشرائية ، وهذا يعني بلغة السياسات العمومية : شريحة الطبقة المتوسطة التي تتوفر على مدخول فردي .

إذن دعونا نلخص كلمة السر في هاتين الكلمتين : الطبقة المتوسطة من جهة ، و المدخول الفردي من جهة اخرى !!

الطبقة المتوسطة في المغرب لا زالت أقلية عددية ، بالمقارنة مع هيمنة الطبقة الكادحة ، و لا اقول العاطلة، فهناك فرق باعتبار ان العديد من القطاعات الاقتصادية لا تضمن للعاملين بها شرف الالتحاق بالطبقة المتوسطة : القطاع الفلاحي و القطاع الغير المهيكل على سبيل المثال ، و هذا الفرق بالذات هو المحور الرئيسي الذي يستوجب تغييرا جذريا للسياسات العمومية ، إذ ان هذين القطاعين يشكلان اكبرشريحة من الناحية العددية و لكنهما لا زالا عالقين في الشريحة الكادحة من الناحية النوعية ، و هذا تضييع للفرص و يشكل و انتصارت مفقودة ( manque a gagner) وجب تداركها بكل استعجالية .

لذا وجب التحاق اليد العاملة في القطاع الفلاحي و القطاع غير المهيكل في اقرب وقت بشريحة الطبقة المتوسطة .

ولن تكتمل المعادلة إلا إذا انصبت السياسات العمومية على اشكالية المدخول الفردي ، و هذا هو الشق الاهون و الاسهل بحكم ان المدخول الفردي تتحكم فيه السياسات العمومية بشكل مباشر عبر عاملين اثنين و هما : عامل السياسة الضريبية و خاصة الضريبة على الدخل ، و عامل قدرة السياسات العمومية على تحديد الحد الادنى للدخل .

ثم ماذا عن الشريحة الاقل حظا في المجتمع ، تلك الفئة اللتي لا تمكنها ظروفها الصحية او الاجتماعية من الالتحاق بسوق الشغل وبالسوق الداخلي ، اتحدث على تلك الشريحة اللتي باتت تعيش على نظام التضامن و التكافل الاجتماعي ، و هذا شيء جميل و رائع في مجتمعنا الراقي و لكنه لا يستثني و لا يعوض ابدا مسؤولية الدولة عن هذه الفئات.

واتحدث عن مناطق المغرب المتواجدة داخل التراب الجغرافي لجهات حظوظها ضعيفة من ناحية الاستثمار و فرص الشغل ، اتحدث عن العالم القروي الذي يعيش على حتمية انعدام المدخول و الفقر .. في حين ان انعدام المدخول المرتبط بانعدام فرص الشغل في العالم القروي لم يكن ابدا مسألة حتمية بل نتيجة لسياسات عمومية استسلمت لسهولة إقصاء المواطن القروي البسيط الذي لا يزال يخشى انظمة الدولة و يستسلم للحاجة والاكتفاء كبديل عن مواجهة الدولة و التعبير عن مطالبته بتوفير الدخل الادنى .

هذه الشريحة الاكثر هشاشة، والتي تضيع قدرتها في المشاركة الاقتصادية ، اصبحت في حاجة استعجالية الى نظام الدعم الاجتماعي قصد انتشالها من العدمية و إلحاقها بمكونات السوق الداخلي ، كما هو الحال في دول اوربا عبر ما يسمى بنظام الدخل الادنى (revenu minimum )..

اذن، بما أن المغرب يتوفر على موارد طبيعية تضمن له الانخراط في سياسة الاستقلال الانتاجي ، و هذا في حد ذاته مكسب عظيم و قوة استراتيجية كبرى ، فقد وجب استكمال عناصر الربح في الرهان المتعلق بالاقلاع الاقتصادي و ذلك عبر سياسات عمومية تقطع بشكل جذري مع السياسات السابقة اللتي تعتمد بشكل كبير على مداخيل الصادرات و الاسواق الخارجية ، و اختيارات سياسية جديدة تولي الاهمية بالسوق الداخلي و تضع تطوير شرائح المجتمع المغربي على رأس الاولويات.

أسماء علالي

عضو مجلس جهة سوس ماسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *