المغرب الكبير

استقلال الجزائر..مصالي الحاج وخيانة رفاق النضال؟

في حي رحيبة بمدينة تلمسان، وفي ليلة 16 ماي عام 1898، وُلد مصالي الحاج لعائلةٍ كرغلية، فقد كان والده أحمد مصالي من أصلٍ عثماني، أمّا أمّه التي تُدعى فطيمة صاري، فتعود أصولها إلى الأندلسيين الذين استقروا في تلمسان أواخر القرن السادس عشر الميلادي، هرباً من محاكم التفتيش الإسبانية.

كان والده أحمد يشتغل فلاحاً من أجل توفير لقمة العيش لعائلته، ويشتغل أيضاً حارساً في زاوية أبو مدين الغوث بتلمسان.

ساعدت مهنة والده تلك، في نشأة ابنه الحاج نشأةً صوفية إسلامية مبكرة، فكان مصالي الحاج يرافق والده إلى زاوية أبو مدين الغوث لحفظ القرآن الكريم، وتعلّم أبجديات اللغة والخطاب على يد شيوخ الطريقة الدرقاوية التي كانت تبعها عائلته.

وفي سنّ السابعة، بدأ مصالي الحاج تعليمه الابتدائي في المدارس المختلطة بين الفرنسيين والجزائريين.

لكن ظروف عائلته الصعبة، خاصة بعد طرد المستوطنين الأوروبيين لعائلته من مسكنها سنة 1908م، جعل مصالي الحاج يدخل عالم الشغل باكراً.

ففي السنة التاسعة من عمره اشتغل مصالي حلاقاً، ثمّ إسكافيّاً؛ قبل أن يشتغل في مصنعٍ للتبغ مدة سنةٍ كاملة.

ومثلما ولج عالم الشغل مبكراً، افتتح مصالي الحاج مسيرته النضالية ضد الاحتلال الفرنسي لبلاده مبكراً، إذ يذكر في مذكراته أنّه شارك في أوّل مظاهرة ضد التجنيد الإجباري للجزائريين، وكان يبلغ من العمر حينها 13 سنة فقط.

ويذكر المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، وهو أحد المؤرخين الذين كلفهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمراجعة التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا في كتابه “مصالي الحاج”، أنّ هذا الأخير أخبره بأنّ لوالده دوراً كبيراً في تأسيس وعيه ضد فرنسا، فقد كان يقول له كل يوم إنّ “فرنسا سرقت بلاده”.

في سنّ 18 سنة، كان مصالي الحاج على موعد مع التجنيد الذي عارضه في صغره، وهي الفرصة التي سنحت له من أجل اكتشاف فرنسا من الداخل، والتواصل مع رفاق يحملون نفس أفكاره.

تزامن تجنيد مصالي الحاج في الجيش الفرنسي مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وإجبار المجندين الجزائريين على المشاركة في الحرب.

بحسب مذكرات مصالي الحاج، كانت أخبار الدولة العثمانية ومستقبلها الشغل الشاغل له خلال تلك الفترة، فقد كان معارضاً لإشراك المجندين الجزائريين لقتالها، حتى أنّ الشرطة الفرنسية اعتقلته لأول مرة بسبب هتافه “يحيى مصطفى كمال باشا” أمام الضباط الفرنسيين، تضامناً مع الدولة العثمانية التي كانت في حرب مع فرنسا.

كان وجود مصالي الحاج في فرنسا فرصةً للالتقاء بالشخصيات المقاومة والمعارضة لسياسة فرنسا الاستعمارية، والاجتماع أيضاً بالمناضلين الذين يحملون نفس أفكاره. وحين سرّح مصالي الحاج من الجيش الفرنسي سنة 1921، كان يحمل رتبة عريف.

كانت سنة 1922، نقطة انعطاف في مسيرة مصالي حاج، حين التقى لأول مرة الأمير خالد – حفيد الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة-، خلال ذلك اللقاء، أُعجب مصالي الحاج كثيراً بخطاب الأمير خالد، الذي دعا فيه إلى ضرورة الدفع بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وذلك بناء على وثيقة الرئيس الأمريكي ويلسون، التي تدعم الشعوب في نيل استقلالها. في سنة 1923م، عاد مصالي الحاج مرة أخرى إلى فرنسا، هذه المرة للعملبمصنعٍ للنسيج. استغل مصالي الحاج وجوده في فرنسا، للاحتكاك بالجالية الجزائرية والمغاربية والانخراط في العمل السياسي والنقابي.

كان لنشاط مصالي الحاج العمالي، ومطالبته المستمرة بحقوق العمال، تقاطع مع أنشطة الحزب الشيوعي الفرنسي، ما جعل مصالي يناضل في صفوف الحزب الفرنسي، كما تعرف على امرأة فرنسية تُدعى “إيميلي بيسكان” فتزوجها.

تزامنت المرحلة الأولى من نضال مصالي الحاج مع قيام ثورة عبد الكريم الخطابي بالمغرب الأقصى، وهي الثورة التي لقيت إعجاب المناضل الجزائري ووسعت من دائرة نضاله ضد الاستعمار الفرنسي لتشمل كامل شمال إفريقيا.

وتجسيداً لذلك قام مصالي الحاج بتأسيس حزب نجم شمال إفريقيا، رفقة كل من الحاج علي عبد القادر والمناضل التونسي الشاذلي خير الدين وكان الأمير خالد الرئيس الشرفي للحزب.

كان الهدف من تأسيس حزب شمال إفريقيا في البداية، هو جمع كل القوى الوطنية لمقاومة إرادة الإمبريالية الفرنسية وتوحيد شمال إفريقيا.

خلال مؤتمر مناهضة الإمبريالية، الذي عقد في بروكسل سنة 1927م، وحضره نخبة من قادة الحركات الوطنية في العالم أمثال نهرو، محمد حتى، هوشي منه، الأمين سنغور، قدّم مصالي الحاج في خطابه بالمؤتمر، مطالب كل من المغرب والجزائر معاً، بينما تكفّل الشاذلي خير الله بتقديم المطالب التونسية.

لكن سرعان ما تغيّرت استراتيجية الحزب، بانسحاب الأعضاء التونسيون والمغاربة منه، ليتحوّل اهتمام نجم شمال إفريقيا إلى الجزائر.

كان لخطاب مصالي الحاج في مؤتمر بروكسل، ومطالبته العلنية باستقلال بلاده ردّ فعلٍ عنيف من السلطات الفرنسية، والتي بدأت تتحسس خطر مصالي الحاج وحزبه، فقامت باعتقاله في الأوّل من نونبر 1934.

في سنة 1936، قدّم الحاكم الفرنسي بالجزائر موريس فيوليت مشروعاً اصلاحياً تحت مسمى مشروع “بلوم فيوليت”، الذي كان يهدف إلى دمج الجزائريين مع فرنسا، وقام بعرضه على الطبقة السياسية الجزائرية لمناقشته والمصادقة عليه.

ومن أجل دراسة المشروع، اجتمع أقطاب الحركة الوطنية الجزائرية بكل تياراتها في ما يسمى تاريخياً بـ “المؤتمر الإسلامي”، الذي عُقد في يونيو/حزيران 1936 م.

وللمشاركة في المؤتمر، عاد مصالي الحاج إلى الجزائر بعد غياب دام 12 سنة، كان يناضل فيها من فرنسا. وفور عودته في 2 يونيو 1936، ألقى مصالي الحاج خطاباً شعبياً وسط الآلاف من أنصاره في الملعب البلدي لبلدية العناصر بالعاصمة يرفض فيه مشروع بلوم فيوليت.

قام مصالي الحاج خلال خطابه بحمل حفنة تراب بيده، وقال مقولته الشهيرة :”إن هذه الأرض ليست للبيع، فالشعب الجزائري هو صاحبها ووارثها”.

وخلّف خطاب مصالي الحاج صداً كبيراً في الجزائر وفرنسا، فقامت السلطات الفرنسية بحلّ حزب نجم شمال إفريقيا رسمياً في 26 مارس/آذار 1937.

بعد شهرين من ذلك، عاد مصالي الحاج مجدداً لتأسيس حزب جديداً أطلق عليه اسم ” حزب الشعب”، كما ظهر لأوّل مرة العلم الجزائري الذي قامت زوجته الفرنسية إيميلي بيسكان بتصميمه. كما قام الشاعر الجزائري بتأليف نشيدٍ رسمياً للحزب تحت عنوان “فداء الجزائر”.

استطاع حزب الشعب اكتساح الساحة السياسية الجزائرية، فقد انخرط فيه غالبية المناضلين الذين يؤمنون بالاستقلال، وتحوّل الحزب إلى أيقونة سريعة في مواجهة الاحتلال الفرنسي من خلال شعاره الثلاثي “للاندماج، لا للانفصال، لكن نعم للتحرر”.

في مرحلة ترأسه لحزب الشعب، تعرّض مصالي الحاج مرات عديدة للاعتقال والسجن، والنفي، فقد كان مصالي الحاج يقود حزبه من السجن.

عارض مصالي الحاج بشدة مشاركة الجزائريين بالحرب العالمية الثانية إلى جانب فرنسا، الأمر الذي جعل السلطات الفرنسية تنفيه إلى الكونغو سنة 1939، كما قامت بحظر حزب الشعب الجزائري، بحسب ما ذكره بنجامين ستورا. وخلال تلك الفترة، انخرط جيلٌ جديدٌ من المناضلين إلى حزب الشعب الذي ظلّ يعمل سرياً، كان أبرزهم المناضلين الذين فجروا ثورة نوفمبر 1954.

عاد مصالي الحاج من منفاه سنة 1946م، فوجد واقعاً جديداً في بلاده، أحدثته مجازر الثامن ماي 1945م، الذي فرض تحول قناعات العديد من المناضلين الجزائريين من النضال السياسي إلى الكفاح المسلح.

قام مصالي الحاج بتأسيس حزب ثالث في مسيرته، وهو حزب حركة “انتصار الحريات الديمقراطية”، كان هذا الحزب في الحقيقة هو إستمرار لحزب الشعب مع تغيير التسمية فقط.

فرض الواقع الجديد الذي وجده مصالي الحاج، -كما سبق أن ذكرنا، في تغيير سياسة نضال حزبه الجديد، وذلك بتأسيس ذراعٍ مسلح خاص بالحزب، ويتعلق الأمر بالمنظمة الخاصة التي تأسست في فبراير/شباط 1947، وكان المناضل محمد بلوزداد أوّل رئيس لها.

عملت المنظمة الخاصة عدة عمليات عسكرية ضدّ السلطات الفرنسية، أبرزها هجوم بريد وهران سنة 1950م بقيادة المناضل محمد بوضياف، لكن اكتشاف السلطات الفرنسية لهذه المنظمة فجّر أزمة كبيرة بين مصالي الحاج ومناضلي المنظمة.

قام مصالي الحاج بإنكار مسؤولية حركة انتصار الحريات الديمقراطية عن المنظمة لحظة انكشاف أمرها، خشية قيام السلطات الفرنسية بحلّ حزبه الأمر الذي أدى إلى انقسام كبير بين المناضلين الجزائريين.

طيلة السنوات الخمس التي سبقت اندلاع الثورة الجزائرية، كان الانقسام المشهد الرئيسي في يوميات الجزائريين السياسية، فانقسمت حركة انتصار الحريات الديمقراطية إلى مجموعتين، جزء يطالب بقيادة مركزية أطلق عليهم “المركزيون”، وجزءٌ يطالب ببقاء مصالي الحاج قائداً وحيداً للحزب واصطلح عليهم “المصاليون”.

وامام تلك الأزمة التي كادت تعصف بالقضية الجزائرية، قام فصيل ثالث بقيادة محمد بوضياف ومحمد العربي بن المهيدي، ليعلن عن قيام الثورة الجزائرية المسلحة في الأول من نوفمبر 1954م.

ويتفق العديد من المؤرخين، أنه في لحظة اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية، كان الاعتقاد الراسخ لعموم الشعب الجزائري أنّ قائدها هو المناضل مصالي الحاج، بل حتى السلطات الفرنسية التي تفاجأت بالثورة كانت تعتقد هي الأخرى أنّ مصالي الحاج يقف وراءها.

غير أنّ الكثير من الجزائريين، ومن ورائهم فرنسا، احتاجوا لعدّة أيام ليعلموا أنّ الثورة الجزائرية قامت دون مصالي الحاج، بحسب ما يذكره المؤرخ إبراهيم لونيسي في كتابه “مصالي الحاج في مواجهة جبهة التحرير الوطني خلال الثورة التحريرية”.

وذلك بعد قيام مصالي الحاج بتأسيس حزب جديد أطلق عليه “الحركة الوطنية الجزائرية” في 6 من نوفمبر/تشرين الثاني 1954م، وإنشاء جيش مرافق له.

اعتبرت جبهة التحرير، بأن تنظيم مصالي الحاج الجديد، متواطئ مع السلطات الاستعمارية و التي تسعى إلى إستخدامه لضرب الثورة.

وبالفعل، كانت سنة 1957 دامية بين الطرفين، حين ارتكبت في بلدة ملوزة واحدة من أبشع المجازر التي راحت ضحيتها أكثر من 300 ضحية من أنصار مصالي الحاج الذي كان حينها منفياً في فرنسا.

استغلت السلطات تلك المجزرة من أجل تسويد صورة جيش التحرير الوطني، وذلك باتهامه بارتكاب المجزرة رغم نفي قادته لذلك.

تسببت تلك المجزرة في إعلان الجنرال بلونيس، الذي كان يقود الذراع العسكرية لتنظيم مصالي الحاج، انضمامه رفقة جيشه إلى الجيش الفرنسي لمحاربة جيش التحرير بحسب ما أورده الدكتور محمد بكار، أستاذ التاريخ بجامعة الشلف الجزائرية في مقالته البحثية تحت عنوان”، الصراع التاريخي بين جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية من خلال الوثائق الفرنسي”. ويرى الكثير من أنصار مصالي الحاج أنّ تأخر قائدهم في الإعلان عن الثورة تقف وراءه أيادٍ خارجية.

وفي مراجعة لكتاب “معارك مصالي الحاج مع الأعداء والخصوم. “نشرها موقع عربي 21، يذكر السفير الجزائري محمد برغام، الذي عمل سابقاً دبلوماسياً في القاهرة، أنّ ضابط المخابرات المصري فتحي ذيب، والرئيس جمال عبد الناصر كان من وراء منع مصالي الحاج من قيادة للثورة الجزائرية.

ويعود سبب ذلك ،حسب برغام إلى توقيف رجال المخابرات المصرية للمناضلين أحمد مزغنة والشاذلي المكي بمطار القاهرة مباشرة بعد توقيعهما لميثاق القاهرة لتوحيد الحركات الوطنية تحت قيادة مصالي الحاج، وهو الأمر الذي فوّت على الأخير إعلان قيام الثورة.

ويبرر السفير الجزائري السابق اتهاماته لجمال عبد الناصر بإبعاد مصالي الحاج ومساعديه لصالح أحمد بن بلة ورفاقه، إلى أنّ الزعيم المصري لم يكن يرتاحاً لمصالي “لكونه زعيماً عربياً وإسلامياً معروفاً عالمياً، الأمر الذي لن يترك الميدان لعبد الناصر وحده”.

نفس الطرح، ذهب إليه الشيخ عقوني، من الشخصيات التي لازمت مصالي الحاج حتى وفاته، والذي يرجع سبب غياب مصالي الحاج عن قيادة الثورة إلى جمال عبد الناصر، إذ يقول عقوني في أحد تصريحاته أنّ “عبد الناصر فوجئ بمصالي الذي نزل عليه ضيفاً، وهو يقول له إن عقل الثورة يجب أن يكون جزائرياً، عقلها وقلبها ونبضها”.

بعد استقلال الجزائر سنة 1962م، ونهاية فترة نفيه، حاول مصالي الحاج العودة إلى المشهد السياسي الجزائري من جديد عبر إعادة تأسيس “حزب الشعب الجزائري”. لكن جبهة التحرير الوطني التي انفردت بحكم الجزائر، قامت بحلّ وحظر قيام أحزابٍ جديدة، فكان مصالي الحاج وحزبه أول الضحايا.

بعدها قررت جبهة التحرير، إخضاع مصالي الحاج للإقامة الجبرية، غير أنه اختار العيش منفياً في فرنسا، إلى أن وافته المنية يوم 3 يونيو 1973.

وتنفيذاً لوصيته وافقت السلطات الجزائرية على القيام بدفنه في مسقط رأسه في تلمسان، واشترطت أن تكون جنازته في الليل وسط الظلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *