آراء

وتلك الأيام نداولها

لم يتركوا مسلسلا تركيا إلا وعربوه، ولا هنديا إلا ودبلجوه، ولو كان بمقدورهم لجردوا تركيا من ممثليها، ولو كان الأمر بيد أحدهم فلن يتردد قطعا في استبدال أحد عمالقة الفن المغربي بمهند التركي، ولو كلفه الأمر الإستعانة بعصا سحرية سارية المفعول يهش بها الأتراك ولو لموسم واحد فقط. نزولا عند رغبة البعض. عوض تكبل عناء دبلجة أفلامهم ليفهمها من لا مشغلة له في حياته سوى تقليد الأتراك في مسلسلاتهم. فاقتنينا فستان “خلود” تقليدا للأعمى. وفتحنا محلات للألبسة التركية بذريعة الأناقة والحشمة. وذلك في انتظار “الساري الهندي الحريري” حتى يبهرنا هو الآخر بأناقته وحشمته في أحياء وشوارع مملكتنا الحبيبة.

برامج باهتة ترفيهية كانت أو سياسية، لا تحرك فينا أي شعور بانتمائنا، ولا تدغدغ فينا أي إحساس بالضحك، سوى شعور غريب ينم عن رغبتك الشديدة في رمي ذلك الصندوق الناطق من على النافذة لعل ذلك يشفي الغليل. فيظل المشاهد يفكر في ذلك الكم الهائل من البرامج التي لا تجدي ولا تنفع. فيسقط في دوامة من التساؤلات، يفضل من خلالها مشاهدة تلك المجازر التي يرتكبها بني أدام ضد بعضهم البعض يذرف من خلالها الدم لا الدمع، خيرا له من مشاهدة تلك المهزلة.

شخصيا لا أومن بأن الإعلام المغربي اليوم في طور ازدهاره، أو أننا نعيش عصرا إعلاميا ذهبيا في ظل ذلك الكم الهائل من الفضائيات، بالرغم من أن هناك من يقول العكس ولا أومن أيضا بأن إعلامنا قد ساهم بشكل أو بآخر في تنمية المجتمع وتقدمه، ولا يمكنني أن أنفي العكس وأن أقدم صورة نمطية ومسيئة للإعلام المغربي. لكني أجزم بأن هذا الأخير في عصور ولت أفضل بكثير مما هو عليه الآن، وذلك بحضوره القوي في مختلف زواياه وأصعدته .

فبصراحة شاشتنا الفضية أيام “روبن هود” و”النمر المقنع” أفضل بكثير مما هي عليه الآن. حيث كنا ننتظر انتهاء الدوام المدرسي بكل شوق. فقط آنذاك كان الأستاذ يشرح الدرس في واد وعقول التلاميذ في واد “فلة والأقزام السبعة”. فكنا نتشابك مع بعضنا البعض في الطابور، حتى نتسابق جريا الى المنزل لمشاهدة حلقات من برامجنا المفضلة. فنبكي حزنا على فقدان “ماوكلي” لعائلته بدل البكاء على فقدان “فريخوليتو” لأبيه.

في ذلك الزمان فقط كانت القناة الأولى لا تجود علينا في السنة إلا بمسلسل مدبلج واحد، يمتد لموسم كامل. ويتم إعادة نفس المسلسل في الموسم الموالي. فكانت “رهينة الماضي” إحدى تلك المسلسلات التي حلت ضيفا على بيوتنا فتتجمع العائلة في غرفة واحدة، في انتظار أن تدق الساعة الثامنة مساء حتى يمنع حظر التجوال والكلام في البيت، إلا ما نذر في الوصلات الإشهارية حيث يمنحون بعضهم البعض هامشا للأسئلة الشفهية. تسأل من خلاله الجدة عن سبب مناداتهم البطلة في المسلسل بالعرجاء؟ فكان للسينما الهندية البوليسية الشهرية حضورها القوي آنذاك. فبالرغم أننا لم نكن لنفهم ولو حرفا واحدا مما يقولون. فيكفي أننا في نهاية الفلم كنا ننظر الى بعضنا البعض فنبتسم من ماذا الله أعلم؟

فقط آنذاك كنا ننتظر جديد السينما المغربية والعالمية الهادفة، في برنامج سينما الخميس. فكنا خلالها نسمر ليلة الثلاثاء والخوف يتربع على قلوبنا لمشاهدة جديد الجرائم مع فضيلة أنور في برنامجها وقائع. فكنا نترقب حلول الصيف بلهفة، لمشاهدة حلقات من البرامج الترفيهية والمسابقات خاصة تلك الفترة الصباحية الصيفية التي تمتد لساعات مخصصة لبرامج الأطفال الهادفة، والأفلام الكرتونية القديمة. خلالها كانت حلقات برنامج “تحت الشمس” تفاجئنا بجديد مسابقاتها ومنوعاتها.

في الصيف فقط كنا ننتظر بث ما عجزت عنه الفصول الثلاث، بعد سنة دراسية شاقة. أما صيفنا اليوم فلم نعد نحس بقدومه ولا نبالي برحيله. فمشاعرنا نحوه قد تبددت في ظل إعلام اليوم، حتى كدنا لا نعلم بحلوله إلا مع دوي المهرجانات.

إنه “الزمن الجميل” هذه الجملة بسيطة، ولكنها عظيمة ومؤلمة في ذات الوقت. منا من لا يفهم معناها، ومنا من يتألم منها ومنا من يسعد بها، الحقيقة أن هذه الجملة عظيمة ومؤلمة في ذات الوقت، عظيمة لأنها تعنى أننا عشنا ما عجز جيل “الأيفون” عن عيشه، ومؤلمة لأن ذكرها يعنى أن إعلام اليوم لا تربطه بإعلام أيام الأبيض والأسود أية علاقة. سوى “وتلك الأيام نداولها”.

فبالرغم من تنوع البرامج التلفزيونية، التثقيفية منها أو الترفيهية، أو تلك البرامج الغربية بالنسخة العربية. إلا أننا نقف مشدودين أمام ماهية تلك البرامج، ما يجعلنا نتساءل عن واقع البرامج التلفزية في الوقت الراهن، وما الذي نحتاج إليه حقا على شاشتنا؟ ما يجعلنا نقول بأن واقع إعلامنا اليوم يفرض علينا الإبتعاد عن الصور النمطية الفاشلة عبر إعلام فاسد، لا نعلم له غاية. ولو كلفنا ذلك العودة الى زمن الأبيض والأسود. فيكفي أننا ما زلنا نتذكر… ” وتلك الأيام نداولها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *