آراء

قبل فوات الأوان يا أمة العرب

إن مأساة الشعب الفلسطيني هي من صنع وطموحات اليهود، ولكنها مأساة أرضعها العرب ساسة وحكام حتى نمت وكبرت واستعصت على الحلول، فلم ينشغل العرب في تاريخهم الطويل مثلما انشغلوا بقضية فلسطين، ولم يتخلف عربي واحد في السلطة أو خارجها عن الإدلاء بدلوه في الشأن الفلسطيني، ولم يظهر علينا عسكري بانقلاب إلا كانت أهم فقرات بيانه الأول تحرير فلسطين، ولم تخلُ خطبة زعيم أو إمام، ولا مقالة كانت، ولا قصيدة شاعر من الغوص في قضية فلسطين كما لم تخلُ منها أناشيد المدارس ولا أغاني المطربين.

لقد إحترف العرب قضية فلسطين وأدمنوها إلى درجة أصبح يعزُّ عليهم أن يفقدوها إذا ما توالت عليهم الحلول، والى حدّ أن يُصبهم الهلع كلما تصوروا إحتمال خلو خطبهم وأحاديثهم وعلاقاتهم منها.

إن أحداً لا يناقش في أن الكيان الاسرائيلي قام على الحلم و ولد ويستمر وجوده بالقوة، لكن كل هذه الحقائق أمور معروفة لنا منذ مؤتمر بال قبل قيام هذا الكيان الغاصب بعشرات السنين، وفيما يواصل العرب صياحهم بحقوقهم في فلسطين إنقطع تواصل الحكام العرب في دق طبول الحرب في العواصم العربية لأنه لم يكن في نيتهم الإستعداد لأية حرب، وإذ أوقف الحكام تنمية الشعوب العربية إستعداداً لمعارك التحرير لم يكن يّدُرْ في خلد أي منهم محاربة الكيان الصهيوني.

هنا تُرى هل يتفاقم إحساس العرب في الفراغ الذي يواجههم وسيواجههم إذا ما آلت القضية الفلسطينية إلى حل، وتم وضع هذا الاحساس بقيمة التوقيعات العربية الرسمية على وثائق المسألة؟.

إن الأمر يبدو كأنه كذلك فقد شرعت أحاسيس القلق التي تنتاب العرب، وخصوصاً الرسمي منها في الظهور بالرغم من محاولات كبتها أو إخفاء ألوان الإرتياح المصطنع عليها.

تفاعل العرب مع قضية فلسطين وخصومة الكيان الاسرائيلي، ولا أقول عداوتها، فبإستثناء الشعب الفلسطيني الذي ضحّى بأرواحه من أجل ما آمن أنه حق له، وقلة من الطلائع الثورية العربية التي شاطرت الشعب الفلسطيني حقه.

لم يتصرف العرب يقيناً إزاء الأمر على أساس عداوة الكيان الاسرائيلي، ولا حتى لما أُتفق على تسميته بالصهيونية العنصرية. نعم لقد كان العرب يتنافسون حكاماً ومحكومين على إعلان الكره، والشجب، وحتى إلقاء الخطب ، وعقد المؤتمرات، وإطلاق الأناشيد مُعبّرين دائماً عن الرؤية العربية لدولة إسرائيل على أنها عصابة من شذّاد الآفاق إحتلت أرضاً عربية، وشرّدت شعباً من العرب وأمعنت في قتله. لكن أحداً من الحكام العرب لم يملك الجدية اللازمة لاتخاذ موقف صحيح وصريح إلا قلّة معدودة لذلك كان يتواصل إستمتاع الجماهير العربية بالإدعاء من قبل الحكام بأنهم يستعدون ويدعمون الحرب على الكيان الاسرائيلي من دون أن نخطر على بالهم الحرب، ومع أن هؤلاء الحكام توقفوا في مرحلة ما عن تسمية الكيان الاسرائيلي بالمزعوم. إلا أنهم لم يُغيروا من نظرة الجماهير العربية الى هذا الكيان كمجتمع فاسد ومفكك وسائر نحو الإنهيار، ولم يتم التعامل معه على أنه واقع لم يَجُزْ التقليل من شأنه أو تجاهل مؤهلاته.

هكذا بدا العرب ومنذ أن أُعلن الكيان الاسرائيلي العام 1948، وكأن فرحةً غامرة حلّت بأفرجتهم وتساوى في ذلك أحياناً الحكام والمحكومين فقد فجّر قيام الكيان الاسرائيلي قرائح العرب بالشعر والأغاني، وأُنجزت أكثر خطب الزعماء حرارة برغم تدني مستواها اللغوي.

لقد استيقطت في الأمة العربية الحماسة الكامنة على تلك الهزّة، لكن شيئاً آخر في هذه الأمة لم يستيقظ معها، وعليه لم يجد من يراجع تعامل الأمة مع قضية فلسطين أية مواقف جدية للحرب أو للسلام، وسيعثر على سلسلة من المواقف الحماسية المصطنعة، والتي جرّت بعض الأمة الى هزائم عسكرية في حروب لم تقصد أبداً خوضها.

إن الأمة العربية عندما تتجرأ على مواجهة نفسها ستجد أن الغالبية من أصحاب السلطة كما الجماعات والأفراد وجداولهم ضالَة في قضية فلسطين وهو لن يكون سعيداً باختفائها.

لقد وجد الشعراء فيها موضوعاً لتقديم القصائد كما وجد كتاب القصص والمقالات ومؤلفو الكتب في أحداثها معيناً غير قابل للنضوب أما الزعماء وخصوصاً الجنرالات منهم فقد عثروا فيها على كل منابع الإلهام، وفيما كان الزمن لا يتوقف، وفيما كانت خسارات الشعب الفلسطيني تتتابع باطراد ظلت بقيتهم شديدة الحرص على أن لا تنتهي القضية، لذلك كانوا يغضبون ممن يدعونهم الى الجلوس والتفكير بل قتلوا وشردوا الكثير من المواطنين لأنهم تجرؤوا على التساؤل عن مدى سلامة موقفهم، في حين كانوا حملة طبول حرب لم يكونوا جادين في الاستعداد لها، وكان الإلتهام بالخيانة نصيب كل من يشكك في جديّة نياتهم لتحرير فلسطين من النهر الى البحر لم يكونوا من الرشاد. بحيث يحاولون خوض حرب جدّية أو التعامل مع القضية بالدبلوماسية، ولم تفلح الهزائم التي وقعوا فيها، ولا الخسارات الفادحة التي تكبدوها في الأرض والارواح والحريات في أن تبلغ بهم سن المسؤولية كي يتم التوجه الى مايمكن الحصول عليه من سلام عبر جهود سياسية أو القعود حيث هم بانتظار أن يصبحوا قادرين على أن يستردوا بالقوة ما أضاعوه بالقوة.

حقاً لا يشهد المرء لدى أمة من الأمم الأخرى هذا القدر من الإضطراب في المواقف، وفي خلط الأوراق، وتزييف الأحداث، واصطناع الوقائع مثل ما يشهد عند العرب في شأن تعاملهم مع قضية فلسطين منذ ظهورها وحتى اليوم.

لقد شرع العرب في معالجة المسألة الفلسطينية معتبرين إسرائيل دولة مزعومة وعصابة صهيونية غَيْر قابلة للبقاء. إن الهلع أصاب غالبية الجماهير العربية من يفكر منها ومن لا يفعل عندما تصورت إحتمال إنتهاء قضية فلسطين بحصول العرب على أقصى ما يستطيعون الحصول عليه وفقاً لمعطيات الظروف المحلية والدولية في وقف إعلان أول هدنة مع إسرائيل، وكان لذلك الهلع فضل تمهيد الطريق أمام الانقلاب العسكرية.

لقد مهدّت مشاعر الهلع من طي صفحة مسألة فلسطين الى ظهور من تأكد من أنه سيكون بطلاً في عين الجماهير العربية إذا ما أطاح بنظام أياً ماتكون تسميته، ويعلم أنه يفعل من أجل تحرير فلسطين.

كان ولع الناس مثقفين ودون ذلك شديداً وظاهراً باستمرار القضية وربما لم يكن يسعدهم حتى القضاء على إسرائيل في ذلك حرمان للجميع من مبرر رائع لارتكاب أي شيء من الأشياء هكذا أصبح كل ضابط أو يحلم بالاستيلاء على السلطة وفي عمله مُسبقاً أنه موضع تأييد وترحيب من الشعب إذا ما قال لهم بأنه ما انقلب إلا لتحرير فلسطين أي لإدامة حياة القضية بكل تبعاتها التي لا يسعدهم حلها والانتهاء منها لا بالهزيمة ولا بالانتصار، وما أن وقع أول إنقلاب عربي حتى سال لعاب كل طامح الى سلطة من عسكر أو أحزاب وحركات تحرير إسلامية أو وطنية ما جعل من إنقلاب عسكر على عسكر، وأحزاب على أحزاب أمراً متواتراً لم يفتقر فيه أحد الى المبررات فقضيته فلسطين قائمة على قدم وساق.

ومع إستمرار التهاب القضية وتواصل الصراعات في داخل الدولة وبين الدول العربية، وصعود زعامات وهبوط أخرى لا نجد خلال سنوات طوال من المواقف العربية ما يمكن وصفه بالجدية إزاء الحرب أو إزاء السلام.

لم تحقق الأمة العربية نصراً، ولم تعترف بهزيمة فصارت لا تعرف المدى الذي وصلت إليه في معالجة الموضوع، ولم تفعل سوى تبادل المدى الذي وصلت إليه في معالجة الموضوع، ولم تفعل سوى تبادل التهم والتصاريح فيما بينها وزرع مشاعر البغضاء والمؤامرات فبدوا وكأنهم سعداء بما يحدث لهم إذ المهم عندهم هو بقاء قضية فلسطين في حال إشتعال حتى آخر فلسطيني، وفي جوٍ من الضوضاء الصاخبة بحيث لا يفتقدونها ويستطيعون في الوقت نفسه فرض ما تدعيه لاحفاقهم من مبررات.

ظل هذا حال العرب مع قضيتنا في الصياح دون فعل لكسب القدرة فليس إلا إنتفاعاً بالمأساة وتضليلاً للضحايا فهم لم يفعلوا شيئاً، و واصلوا الوعد به من تحرير فلسطين وإنهاء الكيان الاسرائيلي دفعة واحدة أو بالاستنزاف على دفعات، و شعر كتّاب وأحزاب بالوقوع من دون القضية في هوة من الفراغ فلم ولن يكون لهم عند حلها بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة الحرة وعاصمتها القدس الشريف من فرصة لكسب أو لظهور فهم تخصصوا مُبرمجين مُسيّرين فيها وأدمنوها، وسيكون من الصعب عليهم الآن أو في المستقبل القريب تأهيل أنفسهم للانشغال بأمر جديد.

لقد كانت قضية فلسطين مرتعاً خصباً للكتابة، والتأليف، وقول الأشعار فهي فضلاً عن أنها سهلة التناول فإنها في الوقت نفسه الموضوع الوحيد المسموح سياسياً بالخوض فيه بقدر ما تسمح عواهن الكلام، ولم تقتصر الإصابة بالهلع من حل وانتهاء القضية على حكام التحرير أو كتابات من يكتبون ويرسمون بل إنها شملت المواطنين العاديين الذين جرت تهيؤاتهم بأوهام الكفاح والتحرير.

حقاً لدى الشعوب العربية إستعداد فطري لتصديق أوهام المجد كما كانت القضية الفلسطينية على مر السنة عقود و نيف الماضية، و وحدة فلسطين الآن ومستقبل الأمة العربية ووجودها الحي والميت السائد والبائد، وهي أميل الى السير خلف وعود برّاقة منها الى إتباع من يحمّلها مسؤولية الفعل، ويضع أمامها إحتمالات الفعل والنجاح، لقد أدى ما قام به الزعماء الإنقلابيون من ترويض للجماهير العربية وشحن لها بأوهام النصر الميسر المحتوم، وما أنجزوه من إدامة توترها بصخب الخطب وضجيج التظاهرات، والمسيرات والمؤتمرات أدى بها الى حالة من إدمان قضية لا تفهم جناياها، ولا تدرك تفاصيلها لكنها تعودت على التعايش معها صباح ومساء لدرجة أصبحت معها لا تستطيع الحياة من دونها.

إنني هنا لا أتحدث عن السلام في حد ذاته فكل سلام قد يكون ناقصاً أو غير عادل لكنني أتحدث عن الحالة التي تعقب عملية السلام وهي الفراغ الهائل الذي وجدت فيه الأمة العربية نفسها بعد الإتفاقية المصرية- الاسرائيلية، والاردنية الاسرائيلية بلا قضية عاشوا عليها ستة وستين عاماً.

ترى ما الذي ستحويه خطب الزعماء وأية زعماء بعد إنتهاء القضية الفلسطينية، وكيف سيعثرون على ملح الحماسة في غير موضوع يتعلق بفلسطين، وهل ستصفقْ شعوب بخطب تحتوي على شيء من كفاحها أو من أجل تحرير فلسطين؟ وهل ستلقى أناشيد وأغاني شعبية أي قدر إذا لم تتعلق بالقضاء على إسرائيل؟ وماذا سيفعل الشعراء والكتاب والمؤلفون من دون وحي من فلسطين.

حقاً سيبدوا كل شيءٍ باهتاً، ولا طعم له إذا ما انتهت القضية الفلسطينية إسرائيلياً واميركياً وسنلاحظ وكأن عرساً صاخباً قد حطّ عليه الصمت فجأة أو أن الشمس إنطفأت بلا مقدمات، ولعل هذا التوقع هو الذي يدفع الحكام والمحكومين المجزئين الى التقاط جمرات باقية من رماد المسألة الفلسطينية منها نحن نلاحظ اليوم زعماء يتحدثون عن أن المعركة الحقيقية مع الكيان الصهيوني قادمة وهي معركة الصراع السياسي والاقتصادي، ونلاحظ أصحاب فكر وساسة وعامة من الناس يعلمون أن المعركة مع اليهود لم تكن أبداً معركة عسكرية فقط بل هي صراع حضاري الى الأبد وفيما يستعد المفكر والسياسي والعامي للشروع في المصارعة الحضارية من دون أن يفكر في اكتساب المؤهلات نخشى أن يواصل بعض الساسة خوض الصراع السياسي والاقتصادي وقد بدأوا بالأدوات نفسها التي خاضوا بها صراع الحروب من طوارئ وخطب وأناشيد وأغنيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *