آراء

عن قواعد “اللعب”

ليس هناك لعبة، سواء كانت شعبية أو نخبوية، سواء كانت فردية أو جماعية، إلا ولها قواعدها ولها قانونها المنظم، حتى وإن كانت من الألعاب البدائية. لذلك، وُجدت هيئات للتحكيم، مهمتها السهر على احترام تلك القواعد والعمل بها. وكل من لم ينضبط لها، يعرض نفسه لعقوبة أو لجزاءات تتناسب ومستوى الخرق أو الخطأ المرتكب في حق قانون اللعبة. ولا أحتاج، هنا، لسرد أمثلة، ما دام الأمر معروفا لدى الجميع.

وليس هناك تجمع بشري قل شأنه أو عظم، إلا ويتخذ لنفسه قوانين مشتركة ويحدث آليات لفرض احترام تلك القوانين، وذلك عن طريق سلطة تنفيذية، المفروض فيها أن ترعى وتراعي المصلحة العامة حتى لا تطغى المصالح الذاتية؛ وهكذا، نشأ في المجتمعات ما يسمى بالعقد الاجتماعي.

ففي المجتمعات البدائية، تسود الأعراف والتقاليد؛ ويعتبر كل مخالف لها خارجا عن الجماعة. ويترتب عن ذلك تدخل الجماعة أو أفراد منها لحماية النظام الاجتماعي من الضعف والتفكك. أما في المجتمعات العصرية، فإن العلاقات بين أفرادها تقوم على مبدأ المساواة أمام القانون وفي الحقوق والواجبات، وتحكمها ضوابط تمنع التسلط والتسيب والفوضى، الخ. وهذا التنظيم هو ما يطلق عليه الدولة الحديثة أو دولة المؤسسات. فالمؤسسات علامة على الانتماء إلى الحداثة والديمقراطية ودولة الحق والقانون. إن الدولة الديمقراطية تقوم، من جهة، على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ ومن جهة أخرى، على مبدأ فصل السلط واستقلال بعضها عن بعض لضمان التوازن المطلوب داخل الدولة والمجتمع.

وداخل هذا التنظيم العام، يمكن تصور كل تجمع بشري (حزب، نقابة، جمعية، نادي…) كمجتمع قائم بذاته. ولذلك، تجد كل التنظيمات (السياسية والاجتماعية والرياضية والثقافية…) تتخذ لها قوانين أساسية وأنظمة داخلية تنظم العلاقات فيما بين أفرادها وبينها وبين باقي مكونات الدولة والمجتمع. ومن أجل تفعيل هذه القوانين والأنظمة، يتم اللجوء، عادة، إلى هيئات من قبيل لجنة التحكيم والأخلاقيات، أو لجنة المراقبة أو غيرهما.

وبما أن لكل مجتمع مؤسسات وإطارات، يعتمد عليها ليس فقط في تسيير شئونه اليومية، بل كذلك في حمايته من المؤثرات الخارجية المضرة ومن المنزلقات أو طغيان بعض الأنانيات ومن تفشي السلوكات المخلة بالمصلحة العامة، فإن الحزب، مثلا، (وليكن، هنا، الاتحاد الاشتراكي)، باعتباره شكلا من أشكال التنظيم الاجتماعي أو الجماعي، هو في حاجة إلى تحصين نفسه بإيجاد وسائل تقيه من تأثير الأمراض المتفشية في المجتمع.

وأعتقد أن من بين أسباب الأزمة التي عاشها ويعيشها حزبنا اليوم، هو تفريطه في تطبيق مقتضيات قانونه الأساسي ونظامه الداخلي. فعدم تفعيل بعض الآليات الوقائية وعدم التدخل لوضع حد لحالات التسيب والفوضى وعدم الحسم في كثير من المشاكل التنظيمية، جعل الجسم الاتحادي يصاب بالصدأ وتنخره الخلافات وتتقاذفه الحسابات الشخصية الضيقة. فغياب المحاسبة وتعطيل مبدأ النقد والنقد الذاتي، شجع على عدم الامتثال للقانون الأساسي والنظام الداخلي، مرة باسم حرية التعبير ومرة باسم حرية التفكير وأخرى باسم الديمقراطية وما إلى ذلك من كلام الحق الذي يراد به باطل.

إن غياب المحاسبة قد ساعد على اضمحلال الشعور بالمسئولية وساهم في تفشي نوع من التسيب وعدم الاكتراث بالضوابط الحزبية والأخلاقية، ذلك أن غياب المحاسبة ساوى بين من يعمل ومن لا يعمل، بل وبين الصالح والطالح. فكم من إرادة حسنة وطاقة حزبية شعرت بالإحباط أمام ممارسات لا تمت بصلة للقيم النضالية الاتحادية وللسلوك الإنساني القويم، فاستسلمت للأمر الواقع وانسحبت في صمت، متجرعة مرارة الخيبة واليأس. وكم من مخل بمسئولياته سواء التنظيمية أو السياسية أو الاجتماعية والتي تبدو للعادي والبادي، استمر في الاستهتار بمسئوليته واستغلال الواجهة التي يوجد بها(النقابة، البلدية ، البرلمان، الخ) دون أن يحاسب على ما يرتكبه من أخطاء وما يقترفه في حق حزبه من آثام. لذلك أصبح اليوم مشكل تعريف المناضل الاتحادي قائما ومفهوم العضوية في الاتحاد (التي هي تعاقد، كما قال الكاتب الأول) مطروحا. فأمام غياب المحاسبة، أصبحنا نرى سلوكات من مسئولين ومناضلين لا تمت بصلة لمبادئ وأخلاق الاتحاد. وقد ساهم في تفشي هذا السلوك واستفحاله غياب التكوين السياسي (النظري والعملي).

وفي مثل هذا الوضع، يختلط الحابل بالنابل وتختل اللعبة السياسية، ويصبح العمل السياسي تتحكم فيه النزوات والرغبات الشخصية، بدل الضوابط التنظيمية والقواعد القانونية. وتصبح، تبعا لذلك، اللعبة الديمقراطية نفسها فارغة من محتواها. فالديمقراطية، كوسيلة لحسم الخلاف وتدبير الاختلاف وكأداة للوصول إلى المسؤولية أو للاضطلاع بمهام المعارضة، إذا لم تحترم فيها قواعد اللعب، بما في ذلك الشفافية واحترام القانون والقبول بالنتائج، الخ، تصبح لعبة غير مغرية وغير قادرة على إنتاج مؤسسات تحظى باحترام الجميع.

وأعتقد أن ما عرفه الاتحاد الاشتراكي خلال مساره النضالي والتاريخي من هزات سياسية وتنظيمية، يرجع بالأساس إلى عدم القبول بالاحتكام إلى الديمقراطية كوسيلة ناجعة لحسم الخلاف. فأحداث 8 ماي 1983، ما كانت لتحدث لو أن متزعمي تلك الأحداث احتكموا إلى الحوار والإقناع، بدل محاولة فرض الأمر الواقع بمنع اجتماع اللجنة المركزية للحزب حتى لا تقرر المشاركة في الانتخابات الجماعية لصيف 1983. وخروج “الأموي” ومن معه من المؤتمر الوطني السادس (سنة 2001)، ما كان ليحدث لو كان الحَكَم، هي الديمقراطية والضوابط الحزبية. فالانسحاب من المؤتمر ما هو إلا تمرد على القواعد الديمقراطية. ولا أحتاج، هنا، أن أعود إلى الآثار السياسية لمثل هذه الوقائع والأحداث. لكني أؤكد، مرة أخرى، أن الأحزاب التي خرجت من رحم الاتحاد، لم تنجح إلا في شيء واحد ووحيد، هو إضعاف حزب القوات الشعبية؛ وقد قدمت، بذلك، خدمة كبيرة لخصوم هذا الحزب العتيد؛ وهم، على كل حال، كثر ويتربصون به في كل المنعرجات.

واليوم، نكاد نعيش تهيئ سيناريو مماثل، وإن اختلف السياق والأسلوب. فالمنطق (والعقل والقانون) يعطي الحق لمن لم ترضه نتائج المؤتمر الأخير أن يلجأ إلى المساطر القانونية، خصوصا وأن من بين أهداف حزبنا هو بناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات. ومن حق من لم تعجبه القيادة الجديدة أن يعارض توجهها داخل مؤسسات الحزب وأجهزته التقريرية. لكن، ليس من حق أحد أن ببني تنظيما موازيا (أفقيا أو عموديا) داخل الحزب باسم التيار، خصوصا وأن مسألة التيارات لم يُحسم فيها لا في مؤتمراتنا ولا في الندوة الوطنية للتنظيم ولا في اللجنة الإدارية ولا في المجلس الوطني. وكل عمل في هذا الاتجاه، هو، في الواقع، انشقاق مُقنَّع. فليتحمل كل واحد مسؤوليته وليفصح كل عن نواياه الحقيقية.

من المخجل أن نجعل من مسألة تطبيق القانون الأساسي لحزبنا موضوع صراع وخلاف بيننا (في حين تتفوق علينا، في هذا الباب، بعض الهيئات السياسية المحافظة التي يقل خلافها، أصلا). فإذا لم نحتكم إلى القانون، فلأي شيء سنحتكم في خلافنا مع بعضنا البعض؟ أليس الاحتكام إلى القانون وسيلة من الوسائل الديمقراطية لحسم الخلاف وتدبير الاختلاف؟ أليس الاحتكام إلى القانون عنوانا على الانتماء إلى الحداثة؟… لماذا نمانع في قيام الهيئات (التي اتفقنا عليها في مؤتمرنا) بواجبها في مساءلة بعض الأشخاص الذين يعتقد البعض أنهم أساءوا إلى الحزب؟ ثم إن المساءلة لا تعني الإدانة. فقرينة البراءة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته) هي من المبادئ التي دافع عليها حزبنا دائما.فحضور شخص ما أمام لجنة معينة، لا يعني بالضرورة إدانته؛ بل بالعكس، قد يكون في ذلك ما يبيض صفحته من المتهم الموجهة إليه بناء على ما تتداوله الجرائد المشبوهة أو ما يروج في المجالس الخاصة. فهل يراد لهذا الحزب أن لا تستقيم فيه المؤسسات؟ وهل علينا أن نستمر في تجرع مرارة حالة التسيب والفوضى وغياب المحاسبة، ونحن الذين تمسكنا بمبدأ ربط المسؤولية بالحاسبة حتى تم التنصيص عليه بكل وضوح في الدستور الجديد؟…

سؤال للتأمل: إذا كنا نوافق في البرلمان بمجلسيه، ونحن في المعارضة، على بعض القوانين، فيُصادَق عليها بالإجماع، فلماذا لا نعمل بنفس الروح داخل الحزب، فنشجع كل المبادرات التي تعيد إلى الحزب بعضا من وهجه، تنظيميا وسياسيا، وتسهم في تنشيط الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي وتساعد على استعادة المبادرة… الخ ؟ ولماذا نعارض الأشخاص (والأصح الشخص) وليس المؤسسات؟ ولماذا لا نثمن المبادرات الإيجابية؟ ولماذا المعارضة من أجل المعارضة؟…الخ. أنا لا أفهم ولا أتفهم أن يقاطع البعض، بسبب معارضته للقيادة الجديدة، الأنشطة الإشعاعية الكبرى التي نظمها الحزب خلال شهر أكتوبر 2013، وبالأخص ذكرى يوم الوفاء التي تقام لأول مرة. لا أفهم ولا أتفهم معاكسة المبادرات التي من شأنها أن تعيد للحزب بريقه، لمجرد أنها مبادرة محسوبة للقيادة الجديدة؟… فهل يهمنا الحزب أم تهمنا ذواتنا الـ……..فقط ؟!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *