ملفات

“أفارقة” زاكورة .. أيقونة للتاريخ الأسود بالجنوب الشرقي

ما يميز سكان واحات وادي درعة بإقليم زاكورة، هو تنوع أعراقهم وأصولهم، ومنهم فئة “العبيد” (وهنا نستعمل هذا المصطلح لدلالته التاريخية فقط وليس لمعناه القدحي)، وهي من العناصر البشرية التي أجمعت المصادر التاريخية، على قدومها من السودان الغربي (حوض النيجر والمناطق المجاورة له) واستقرارها بدرعة، خلال العهد السعدي وبالتحديد أثناء فترة ازدهار تجارة الذهب والرقيق، على اعتبار أن إقليم زاكورة شكل أهم محطات الطريق التجاري الرابط بين مراكش والسودان. 

شح في المصادر التاريخية

من خلال الإطلاع على أغلب المصادر التاريخية التي تتناول تاريخ المنطقة، فإن هذه المصادر أحجمت عن الحديث عن هذه الفئة، وعن تقديم تقدير للأعداد المفترض أن تكون قد جلبت أو هاجرت من السودان الى وادي درعة. إلا أن المؤكد أن العبيد بقصور زاكورة شكلوا قوة بشرية مهمة، كما أن تجارة العبيد كانت رائجة بوادي درعة منذ القرن 16 الميلادي إلى أن اختفت مع حلول المستعمر الفر نسي بالمنطقة.

أغلب عمليات الشراء بالمنطقة، كانت تتم بين الأسر أو الأعيان المالكة للعبيد

وحسب كبار شيوخ عبيد درعة الوسطى، فإنه باستثناء سوقي فم زكيد وبني سبيح بتاكونيت اللذين كانا مشهورين في بيع العبيد، فإن أغلب عمليات الشراء بالمنطقة، كانت تتم بين الأسر أو الأعيان المالكة للعبيد وتجار أو سماسرة هذا النوع من التجارة في البشر، حيث كان العبد يباع داخل القصر (الدوار) ويحرر عقد في العملية يسلم بموجبه العبد لمالكه الجديد، وكان العبد الأكثر “رواجا” حسب عائلات كانت مالكة للعبيد هو ذلك الشخص القوي البنية والمخلص لسيده والمتفاني في خدمة أملاكه وأسرته. وقد شكلت فترة الصراعات القبلية بوادي درعة أهم مرحلة ازدهار ظاهرة بيع العبيد.

وتختص أسر معينة في امتلاك العبيد فهي في الغالب ميسورة أو تنتمي إلى فئة الأعيان أو شيوخ المنطقة كما هو حال الشيخ بلعبوط بفزواطة، الذي كان يملك أكثر من 70 من الأرقاء من الجنسين الذكور منهم كلهم مسلحون، كما أن هناك أسرا احترفت السلب والنهب فغنمت اعدادا من العبيد فصارت تتاجر فيهم، كما احتضنت الزوايا مئات العبيد والجواري. وكان العبد يقوم بالإضافة الى العمل بالأراضي والمنازل أحيانا يتولى مهمة حماية سيده والدفاع الى جانبه كلما دعت الضرورة الى ذلك.

عزلة في المكان

إذا كان المؤرخ مارمول يرى أن العبيد تكاثروا بقصور درعة بشكل مثير عبر تاريخ درعة الوسيط، فان الخريطة السكانية الحالية لاقليم زاكورة تجعل هذه الشريحة الاجتماعية منحصرة في زاويتي تمسلا وتمكروت والباقية موزعة بين قصور واحات ترناتة وفزواطة وامحاميد الغزلان والكتاوة.

وحسب مصادر من عبيد ترناتة، فإن أجدادهم الأوائل الذين هاجروا إلى درعة كانوا لا ينطقون البثة اللغة العربية، حيث يتحدثون لغة الهوسا أو البامبرا أو يتكلمون لغة السونغاي. إلا أنهم استطاعوا الاندماج بسرعة في حياة الواحات يضيف نفس المصدر السابق بعد تخيلهم عن بعض أنماط عيشهم الأصلية، مع الحفاظ على السمات الأساسية القديمة التي تميزهم داخل النسيج السكاني بالاقليم تجسدها التقاليد والطقوس الاحتفالية، أثناء الأعراس والمناسبات الدينية التي يحيونها خصوصا خلال مناسبتي عاشوراء وعيد المولد النبوي، اللتين يحرص العبيد على إحياءها على مدى أسابيع يتنقلون خلالها بين القصور التي يسكنونها، تصاحبها مشاهد من الفرجة التي تميز فن الغناء عند العبيد.

كانوا لا ينطقون اللغة العربية، حيث يتحدثون لغة الهوسا أو البامبرا أو يتكلمون لغة السونغاي

والحقيقة أن “قبيلة” العبيد بدرعة لا زالت منغلقة على نفسها، في العديد من مظاهر الحياة، خصوصا ما يتعلق بالزواج، فالعبد لا يمكنه الزواج خارج محيطه “العرقي” إلا في الحالات “الشاذة”، ونفس الشيء بالنسبة “للخادم”، اللهم إذا تزوجها حر أبيض، وما أكثر هذه الحالات. يضاف إلى أن العبيد معتزين أشد الاعتزاز بانتمائهم العرقي وبموطنهم الأصلي إذ لا زالوا الى عهد قريب يسمون ابناءهم باسماء مستوردة من السودان كاسم: مباركو، بامبارا، بانكورا… كما يبدو الموطن الأصلي حاضرا لديهم في أغلب مناسبات الأفراح، فهم يستهلون به أشهر أغانيهم كالمقدمة الشهيرة التي تبدأ بـ “يا سودا، يا سودان، أياما”.

الإستعمار يحرر العبيد

يبدو أن العبد يصنف نفسه في الدرجة الثانية بعد الأحرار البيض داخل السلم التراتبي بدرعة فهو يرفض رفضا قاطعا امتلاكه من طرف “الضراوة”، وهذا ما يفسر عدم تواجد العبيد بالقصور الخاصة بـ “الضراوة”، وتعايشهم إلى جانب العرب أو الأحرار أو الأمازيغ أو الشرفاء؛ فنادرا ما يملك الضراوي العبد رغم التشابه الكبير بينهما خصوصا على مستوى الأصل ولون البشرة الميال إلى السواد الداكن.

وقد شكل مجيء الاستعمار الفرنسي إلى زاكورة أوائل الثلاثينات مرحلة انعتاق بالنسبة لهذه الفئة حيث تم تحريرها وتحريم بيعها باستثناء عبيد زاوية تمسلا الذين لا زالوا إلى عهد قريب يخضعون في كل شيء لصاحب الزاوية على اعتبار أنهم جزء من ساكنتها يعملون بمزارعها ويأتمرون بأوامر مالك الزاوية بما في ذلك امر الزواج والطلاق هذا. في الوقت الذي تمكن فيه عبيد الزاوية الناصرية بتمكروت من تكوين حي خاص بهم خارج أسوار الزاوية سموه بحي العبيد يعيشون فيه حياة حرة مع احتفاظهم بروابطهم التاريخية بشيوخ الزاوية الناصرية، مع العلم أنهم شكلوا فيما مضى قوة ضاربة داخل الزاوية خاصة أولئك الذين كانوا مرتبين في رتبة “مقدم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *