آراء

عندما بكى ملك إسبانيا عن فقدان عرشه

التاريخ أشبه بحكايات عن دروس يتلقها التلميذ المتعلم، فيكفيك أن تكون فقط تلميذا غير متكبر وتقبل الإنصات، وتريد حقا أن تقرأ نفسك ومجتمعك وأحداث عصرك في بعض صفحات أمهات الكتب، وتكاد تحس بأن ما يدور حولك ليس إلا آخر طبعة من حلقات كتاب التاريخ، وأن الذين يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ ‏.‏‏.‏ هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون، يمتازون بالغباء الشديد والسذاجة.

بالأمس تقاعد ملوك ثلات دول في أوربا، بينما تخلى واحد عن الحكم لإبنه في المشرق العربي، ولكون ملوك المشارقة، يختلفون عن غيرهم من ملوك النصارى، فإن تمت حكاية سقوط ملوك الطوائف، تفيدنا أن إعتراف الملك خوان كارلوس في خطابه للشعب بأنه سينحني عن العرش لإبنه من أجل دفع الملكية نحو الحداثة وهو ما يعني ضمنيا أن الملكية في إسبانيا هي الأخر لم تتخلص من تراكمات ملوك الطوائف، ولأن التاريخ حلقات ودائرة تتكرر بأحداثها ولو بشكل مختلف، فإن اسبانيا اليوم ما تعانيه من ظهور لمناطق تريد الإستقلال عن الأسبنةوأشهرها إقليم كاتلونيا، يذكرنا بفترات وحكايات عن خروج المشارقة من الأندلس وعن قصة هزيمتهم وسقوط غرناطة وكيف اضطر إبن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة إلى أن يهادن ملك قشتالة المسيحي، وأن يعقد معه صلحا لمدة عشرين سنة، وأن يفرض عليه شروطا بعد ذلك للصلح، وكانت أقصاها الاعتراف بالطاعة والولاء والإخلاص لملك قشتالة، وتعهد بأن يؤدي له ضريبة سنوية، واستغل تقرب وطمع إبن الأحمر واستعان به في قيادة كتيبة إسلامية هاجمت مدينة اشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله، وهو ماحدا بسقوط ثقافة المشارقة بالأندلس وسقطت اشبيلية بيد فرناندو الثالث ملك قشتالة سنة 646هـ وطبعا بمعونة إبن الأحمر.

لقد ورث خلافة المشارقة أكثر من عشرين حاكما في أكثر من عشرين مقاطعة إسبانية، وانقسم هؤلاء الحكام إلى أمازيغ وصقالبة ومعربين، وكانت بينهم حروب قومية لم تخمد طيلة السنوات التي حكموا فيها، ولقد ترك هؤلاء الملوك المتشبعون بالفكر المشرقي المستذلون والضعاف ملوك النصارى يعيشون على خلافاتهم ويتقدمون في بلادهم، وانشغلوا هم بحروبهم الداخلية، وتسابقوا على كسب ود النصارى والإستقواء ببعضهم ضد إخوتهم، وامتهنوا في ذلك كرامتهم وكرامة الإسلام، فدفعوا الجزية وتنازلوا طوعا عن بعض مدنهم للنصارى، وحاربوا في جيوش النصارى ضد المسلمين من إخوانهم في المدن الأخرى من أرض الأندلس التي كانت مرتبطة بالمرابطون أمازيغ الصحراء.

وقد اشتهر من بين هؤلاء الملوك المتنافسين أسرة بني عباد، التي نبغ فيها المعتمد بن عباد كأمير مشهور عاطفي، وكان المعتمد هذا قد استعان بالمرابطين في المغرب الأقصى، وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من المعتمد الذي تعاون معه الأمازيغ، قال لهم كلمته المشهورة:‏ ‏”‏لأن أرعى الجمال في الصحراء خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين‏”، ‏ولقد تبين ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس، وجاءته النداءات من العلماء بوجوب الاستيلاء على الأندلس فاستولى عليها وأعاد إليها وحدتها، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه، ويفضل بعضهم النصارى عليه‏، و تقدم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين فعبر البحر و”‏جبل طارق” وحقق نصرا في ‏”معركة الزلاقة‏”‏ سنة 1086م، كان انتصارا كبيرا وساحقا جعل هيبة الصنهاجيين الأمازيغ يمدون عمر خصوصية المغاربة في الأندلس فترة أخرى من الزمن.

ولأن المرابطين استطاعوا أن يعيدوا الاعتبار للمسلمين في الأندلس والقضاء على ملوك الطوائف إلا أن صراعا آخر طفا على السطح مع الموحدين، وكان أخر أمرائهم هناك “أبو زيد بن أبي عبد الله”‏ لجأ بعد انهيار ملكه في بلنسية بسبب صراعه مع بقايا الأمويين، إلى التحالف مع ملك أراكون في غزواته ضد المسلمين العرب، فاتخذ قراره الثوري الحاسم “باعتناق النصرانية”.

من تاريخ اسبانيا اليوم مرت ملكيات إسلامية ومسيحية، بل أعطت دروسا وحكما في التاريخ، وأجابت عن أسئلة هزيمة ملوك المسلمين بالأندلس، وكيف أن عامل الاستبداد وغياب الديمقراطية كان على رأس اندثار الملكيات، ولعل آخر ملوك غرناطة المحسوب اليوم على اسبانيا “أبو عبد الله” ركب سفينته مقلعا عن غرناطة، مودعا أرضا حكمت باسم الوازع الديني المشرقي، وفي مناخ دام ثمانية قرون في أوربا عاشتها في ظلال الإسلام.

لكن هذا الأمير أبو عبد الله الذي كان يحكم ما يسمى اليوم بإسبانيا بكى على ملكه عندما تنازل عن عرش غرناطة كرها، وملك الإسلام المضاع، وحفر في ذاكرته كلمات أمه وحفظها التاريخ في هذا الموقف الدرامي وقال حينها “أبكي مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال”.

إنها حكاية عن ملوك حكموا بقبضة من حديد، وبكوا في الأخير مثل النساء ولم يستطيعوا أن يحافظوا على حكمهم حفظ الرجال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *