ملفات

اشتوكة آيت باها .. حيث تتحول القاصرات إلى أمهات قبل الأوان!

براعم تحولن إلى “أمهات قبل الأوان”، ذلك ما وقفت عليه “مشاهد.أنفو” في رحلة بحثها عن حكايات طفلات قاصرات في منطقة تعيش ظاهرة ملفتة تتعلق بخروج الأم إلى العمل في الحقول والضيعات الفلاحية من أجل مواجهة الفقر وضيق ذات اليد، بفعل غياب الأب أو عطالته وعدم اهتمامه بما تقتضيه مسؤولية البيت.

في هذا الربورطاج تستعرض “مشاهد.أنفو” شهادات صادمة لطفلات حولتهن الظروف القاهرة إلى ربات بيوت قبل الأوان.

أصل الحكاية .. جفاف وفقر

عرف المغرب بداية ثمانينيات القرن الماضي موجة من الجفاف أمسكت السماء على اثرها حتى أصبحت مجاري الوديان والأبار مجرد أطلال وهو ما قضى على أغلب صغار الفلاحين. ومنذ بداية التسعينيات بدأ توجه جديد في الاستثمار في القطاع الفلاحي بالمغرب، وشجعت الدولة الفلاحين الكبار بمنحهم قروضا تشجيعية وإعفاءات ضريبية.

وكان سهل اشتوكة واحدا من أهم المناطق استقطابا، حيث استثمر الفلاحون في الورد والياقطين بأنواعه والفلفل والجلبان والتوت ومختلف الخضروات والفواكه، وساعدهم في ذلك انخفاض أثمنة اقتناء العقار، وهو ما أنعش قطاع الشغل بالمنطقة، وبدأ خبر توفر فرص الشغل باشتوكة في الانتشار، حيث التحقت دواوير بأكملها بالمنطقة.

وبعد الاستقرار بدأت المشاكل الاجتماعية في الظهور، ويبقى أخطرها استقالة تلك الأسر من دورها في التربية وتوفير الحضن الدافئ لأبنائها بحكم أنها تقضي معظم أوقاتها داخل الضيعات.

كيف تحولت “التلميذات” إلى أمهات قبل الأوان؟

السؤال يبدو سهلا في مضمونه، ولكن البحث في حقيقته يستدعي مقاربات عديدة، فمجال الاشتغال كان واسعا وبالتالي تعددت الحالات التي وقفت عليها “مشاهد.أنفو”. بحثنا في الدواوير وكانت الانطلاقة من الجداول الدراسية لبعض الاقسام المستهدفة.

بعد بحث قصير تم الوقوف على ثلاث حالات لفتيات يعشن الظاهرة في عمقها، تحملن مسؤولية الأسرة عوض الأم، وأغلبهن اليوم لا يساير الدراسة. ويطغى عليهن الاهمال في الواجبات المنزلية، وتهور في احترام أوقات الدخول والغيابات المستمرة، والعياء الواضح داخل الفصل الدراسي، ويبدو عليهن الوهن والضعف جراء المجهود الاضافي والمزدوج الذي تفرضه تربية من هم أقل منهن عمرا.

لطيفة: شاهدت العنف بأم عيني

تبلغ لطيفة اليوم من العمر 11 سنة، وكانت شاهدة على عنف دائم بين الأب والأم. كانت الكبرى ضمن إخوتها، وهو ما جعلها تتحمل مسؤولية تدبير شؤون البيت منذ نعومة أظفارها. لم تكن لطيفة تعرف من ألعاب البنات سوى ماله علاقة بالماء والصابون. غادرت أم لطيفة منزل الزوجية واختارت سهل شتوكة كوجهة للحصول على فرصة عمل، لتحط الرحال بمنطقة سيدي بيبي باقليم اشتوكة ايت بها.

نزلت ضيفة عند عمة ابنائها لمدة واكترت بعدها منزلا عبارة عن بيت مجهز بمرحاض وبدون مطبخ. وولجت عالم البيوت البلاستيكية من بابه الواسع وكلها أمل أن تعوض لفلذات الأكباد ما مر عليهم من قهر وجوع مع الأب.

وكان الضحية الأولى ابنتها (لطيفة) التي تحملت عبئ المسؤولية الكاملة فأخوها يتابع دراسته بالقسم الثاني والأصغر بأحد الكتاتيب القرآنية، فكان عمل لطيفة يبدأ مع السادسة صباحا حيث خروج الأم من المنزل نحو الضيعة الفلاحية، فتهيئ الفطور لأخويها وتقوم بكل أشغال البيت قبل حلول السابعة والنصف موعد ذهابها إلى المدرسة التي أصبحت لديها متنفسها الوحيد لاستنشاق عبير الطفولة، وتحس بكيانها أنها طفلة لها الحق في اللعب والتمتع بالحياة المدرسية.

أداؤها الدراسي حسب معلميها جد ضعيف وهو أمر عادي مقارنة مع وضعها الاجتماعي، وأغلب الأحيان تتأخر عن قاعة الدرس بنصف ساعة، والسبب دائما يبقى “داني النعاس أنا وخوتي”، ويبقى برنامج النصف الآخر من اليوم واضحا.

فاطمة .. ضياع بين الرعي وأشغال البيت

تنحدر من منطقة حاحا وتتابع دراستها بالقسم الرابع بالرغم من أن بنيتها الجسمية تبدو أكبر من مستواها التعليمي بحكم تكرارها في أكثر من مستوى. اكتفى الاب بكراء منزل قديم مسقف بطريقة تقليدية لاماء به ولاكهرباء. وتضطر فاطمة في أوقات مختلفة من اليوم لحمل قنينات الماء الفارغة (البيدوزات) للبحث عن من يمدها بجرعة ماء للقيام بأشغال البيت.

وتبقى مشكلة فاطمة أن الأب يعتبر جميع أفراد أسرته استثمارا، فكل همه هو المال، ولا يعترف بالكراسة والدرس، ويعتبر ذلك مضيعة للوقت فحسب. فبحلول الساعات الأولى من كل صباح يوقظ الأب الجميع بما فيهم زوجته التي تتوجه نحو إحدى المعامل الصغيرة للتصبير المتواجدة بمقربة من خميس ايت عميرة، وتترك لفاطمة أشغال المنزل ومسؤولية أب مريض.

مليكة: أبي تركنا عرضة للضياع وأمي أنقذنا منه

التقينا بفتاة التي يبدو على محياها نوع من الحزم، طلبنا منها نبذة من قصة حياتها، بدأت بسردها بكل تلقائية “مازلت اتذكر وأنا ابنة خمس سنوات بأحد الدواوير وسط جبال تيزنيت، كانت أمي دائما تتعرض للاهانة، أبي كان يكبر أمي بسنوات كثيرة لم أكن أقدر أن أميز بين جدي والد أمي وأبي لكونهما يتقاربان في السن. تزوجت أمي وهي ابنة 15 سنة وأبي كان شبه عاطل عن العمل.

قررت أمي الرحيل بعد تعرضها للتعنيف من طرف والدي، انتقلنا أمام أنظاره إلى منطقة تيمولاي ببيوزكارن، وبعدها انتقلنا إلى سهل اشتوكة والتحقت أمي بالعمل يومين بعد قدومنا واكترينا منزلا صغيرا. تغيرت الدنيا من حولي، فقد كنت محظوظة جدا، فالمدرسة قريبة والماء والكهرباء لدينا. أمي تشتغل وستمنحنا ما نحتاجه”.

كل هذه الأفكار كانت تدور في فلك مليكة، ولكن لم تكن تفكر في أنها ستصبح أما لأخيها الصغير وستصبح ربة بيت من نوع خاص. كانت الأم تستيقظ على الساعة الرابعة والنصف صباحا وتهيئ غذاءها وفطور ابنيها ـ وتترك المنزل في ظلمة الليل.

نترك المجال لمليكة للتحدث عن آمالها: “كل ما أرجوه حاليا هو أن أساعد أمي في مصاريف وتكاليف الحياة ..أخي يشتغل في أوقات فراغه. وأنا بدوري سأجرب حظي في العطلة القادمة، بحيث طلبت من بعض صديقاتي اللواتي ولجن سوق الشغل بمساعدتي في إيجاد عمل”.

اساتذة تقاسموا هم المسؤولية مع التلميذات الأمهات

الاساتذة الذي التقتهم “مشاهد.أنفو” ويشرفون على تدريس مثل هاته الحالات، قالوا في تصريحاتهم بأن جميع الحالات تشترك في بعض الصفات كالتأخر الدراسي وأغلبهن يحتاج دعما تربويا ونفسيا واجتماعيا أكثر. وهذا يدخل في صميم العملية التعليمية من جهة، ودور المجتمع المدني المتمثل في الجمعيات التي يجب أن تبحث عن مثل هذه الحالات وتمنحها دعما من خلال الاستفادة في أنشطة موازية تساعدها على الاندماج أكثر بالإضافة إلى الغيابات الكثيرة والتأخرات مما يؤثر سلبا على دراستهن بشكل طبيعي.

حلول ترقيعية فرضها الواقع

لم تقف الأسر التي تعُولها نساء مكتوفة الأيدي، بل بحثن عن حل يجعلهن يلجن الشغل وهن مطمئنات البال. فأشغال المنزل وإن كانت بناتهن يتكفلن بها إلا أن بعضهن يزداد في عملية الاحتراز وخاصة في ضل وجود أطفال في مرحلة الرضاعة. ففاطمة ذات 13 ربيعا وتتابع دراستها بالإعدادي صرحت بأنأامها تضطر لترك رضيعها لدى جارتها بمقابل مادي يصل إلى 50 درهم عن كل أسبوعين (الكانزا) وليس فقط والدة فاطمة هي التي تثق في جارتها، بل هن مجموعة تتكون من 6 نسوة يشتغلن في مكان واحد وجدن هذا الحل الذي يعفيهن من التفكير مطولا في فلذات الأكباد.

أوتزكي: تحميل الأطفال مسؤولية الأسرة انتهاك لحقوق الطفل

تحدث الأستاذ أاحمد أوتزكي مفتش بالتعليم الثانوي ومتخصص في علم الاجتماع لـ “مشاهد.أنفو” عن الآثار النفسية التي تنتج عن تحميل تلميذ قاصر المسؤولية التي تقوم بها الأم، وأكد أن قيام الطفل بأي عمل يفوق طاقته ويتجاوز قدراته يؤثر على توازنه النفسي والعقلي، ويعد انتهاكا لحقوقه ونموه الطبيعي، حتى ولو اتخذ هذا العمل شكل رعاية الإخوة الصغار، بالنظر إلى أن هذا العمل بالضبط.

فالتربية حسب أوتزكي، عمل صعب ومعقد، وقد يستعصي على الآباء وبعض المربين، بالنظر إلى ما تستلزمه رعاية الأطفال من خبرة ومهارة واستعداد فطري ونفسي وذهني لأداء هذه المهمة. وهو ما لا يمكن توفره لدى الطفل أيا كان عمره أو قدراته العقلي.

ويبقى الأثر الاجتماعي البارز للظاهرة، وفق أوتزكي، هو هدر الرأسمال البشري، الذي يبدأ من تعثر المشوار الدراسي للطفل، ويسلب منه حقه في التمتع بطفولته ويعيق تفتحه وانفتاحه. مما يسبب له الإحساس في أغلب الأحيان بالإحباط واليأس، أو الإحساس بمفارقة عالم الصغار والانتقال إلى عالم الكبار قبل الأوان.

الكناوي: جرائم وحوادث وقعت بسبب تحميل القاصرات مسؤولية الأسرة

يقول صلاح الدين الكناوي رئيس جمعية “نحمي شرف ولدي” لحقوق الطفل في تصريح لـ “مشاهد.أنفو”: “من خلال عملنا الميداني رصدنا مجموعة من النتائج السلبية عن هذا الاستغلال، منها تفشي الأمية والهدر المدرسي في أوساط هذه الفئة وانعدام الحماية والشعور بالخوف”، مشيرا أن المشرع المغربي يستند إلى الاتفاقيات الدولية (اتفاقية حقوق الطفل البروتوكولات الملحقة بها) التي تجرم هذه الظاهرة وتعطي للطفل مجموعة من الحقوق (حق العيش، حق التعلم، حق النمو، عدم التمييز …الخ).

هذا، وسبق لجمعية “نحمي شرف ولدي” أن اشتغلت على مثل هذه الملفات منها على سبيل الحصر ملف الطفل (ح.ب) البالغ من العمر 8 سنوات والساكن بحي أزرو – آيت ملول الذي كان ضحية تقصير أخته التي تكبره بسنة واحدة والتي كُلفت بمسؤولية رعاية اثنين من إخوتها لسبب اشتغال أمها المطلقة بأحد الضيعات الفلاحية.

الطفل (ح.ب) تعرض لاغتصاب جماعي من طرف بعض المتشردين بنفس الحي نتيجة الإهمال وعدم المراقبة. كما اشتغلت الجمعية ذاتها، على ملف الطفل ” محمد النظام” بمدينة تارودانت الذي تعرض للاغتصاب والقتل من طرف أبيه حينما كانت أمه تشتغل بأحد الضيعات الفلاحية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *