الشريط الأحمر | هام

منصوري يكتب من سجنه عن “المس بسلاسة النوم الداخلي للدولة”!

“المس بسلاسة النوم الداخلي للدولة”. هذا هو المعنى المُبطِن الوحيد الذي استطعت إيجاده لتهمة المس بسلامة الأمن الداخلي للدولة”، التي اتابع بها الى جانب كل من المؤرخ المعطي منجب والصحافيين عبد الصمد عياش وكريمة نادر والناشط هشام الميراث والفاعل الجمعوي محمد الصبر، والتي ربطتها السلطات أساساً بتطبيق “سطوري مايكر” (StoryMaker) الذي اشتغلنا عليه.

فما هو محتوى هذا البرنامج ؟ وما حقيقة هذه التهمة الثقيلة وما هي الأسباب الحقيقية من ورائها ؟

يتمحور البرنامج حول تطبيق (application) “سطوري مايكر” أي “مُبْدع المقال ” الذي طورته جريدة الغارديان(The Guardian) البريطانية العريقة ومنظمة فري بريس آنليميتد (Free Press Unlimited) الهولندية الداعمة لحرية الصحافة عبر العالم، من أجل مساعدة الصحافيين على إنجاز مقالات صحافية مصورة باستعمال هواتفهم الذكية.

بُنيت فكرة التطبيق على معطى واقعي بسيط مفاده أن الصحافيين لا يحملون دوماً معهم آلات التصوير وتجهيزات المونتاج وهو ما يفوت عليهم أحيانا فرصة تغطية وتوثيق بعض الانشطة والأحداث خاصة غير المتوقعة منها. يتيح التطبيق التقاط صور وانجاز فيديوهات مع إمكانية إضافة التعليق عليها بسهولة دون الحاجة إلى برامج (logiciels) أو الارتباط بالحاسوب.

أما تأطير الدورات التكوينية، فقد أشرف عليها مدربون وصحافيون وأساتذة؛ بعضهم يدرس بالمعهد العالي للإعلام والاتصال (ISIC) التابع لوزارة الاتصال؛ وتناولت مفاهيم الصوت والصورة وتقنيات اجراء الحوارات وأخلاقيات المهنة وغيرها.

أما المواد الصحافية التي أنتجها المستفيدون من تلك التداريب فقد تطرقت لمواضيع مختلفة كظواهر الباعة المتجولين والتسول والتشرد وتشغيل الأطفال، كما عالج عدد منها مواضيع ذات حمولة توعوية كاحترام اشارات المرور وأسبقية الترامواي، وهي تشكل بالتالي مساهمة مجانية واضحة في حملات تحسيسية ترصد لها الدولة ميزانيات هامة كل سنة.

فكيف إذن لهذا التطبيق البسيط، الأقل فعالية من الكاميرا الصغيرة المستعملة من طرف مئات الآلاف من المغاربة أن يعرض سلامة الأفراد أو أمن المنشآت والمؤسسات للخطر. ومن أين سقطت فجأة تهمة “المس بسلامة الأمن الداخلي للدولة”؟

ربما نجد بعض عناصر الإجابة بين طيات واحدة من القصص المنتجة، وهي من انجاز الصحافي الشاب عبد الرحمان بلشكر.

وهو يغادر قاعة التكوين النظري طبّق بلشكر بشكل جيد ما تعلمه للتو: أهمية الفضول والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة من اجل اكتشاف مواضيع تصلح لإنجاز قصة. فقد أثار إنتباهه مجموعة من الصبية وهم يتسولون قرب محطة القطار ولم تكن ملابسهم ولا ملامحهم توحي في شيء بأنهم فقراء… ظن في البداية أنهم مشجعو كرة أو ربما أعضاء فريق أحياء يجمعون النقود لشراء كرة او قمصان. قرر بلشكر الاقتراب منهم أكثر لاستطلاع الأمر. سؤال واحد كان كافياً ليتضح له انه وقع على قصة جيدة. لقد كان الأمر بمثابة ضربة فأس كشفت الكنز.

اكتشف بلشكر أنه امام أطفال استقدمتهم إحدى المركزيات النقابية، من مدينة فاس للمشاركة في مسيرة فاتح ماي مقابل الطعام وبعض المال بالإضافة إلى النقل المجاني.

إلا أن خلافاً بين الأطفال والمنظمين حول تفاصيل أحد بنود الاتفاق (تأدية المقابل المالي بمجرد انتهاء المسيرة كما كان يؤكد التلاميذ أم حتى العودة الى فاس كما أصر المنظمون) أغضب الصغار الذين قرروا الاحتجاج على ضياع حقهم في التعويض المالي عن طريق رفض العودة على متن حافلات النقابة أملا في استجابة الكبار، لكن دون جدوى .

في اليوم الموالي نشرت مواقع النقابة والحزب المقرب منها وشبكاتهما الجمعوية صور وفيديوهات تبين نجاح المسيرة في ما يشبه استعراض القوة أمام حكومة بنكيران. غير أن شيئاً واحداً بدأ يعكر صفو هذا الإنتصار: إنه فيديو بلشكر https://www.youtube.com/watch?v=uhXtuPSpThc الذي انتشر على الشبكات الاجتماعية كالنار في الهشيم قبل أن تتناوله أهم الجرائد الالكترونية المغربية، وبعض المواقع الاجنبية.

أمام الإدانة الواسعة التي خلفها الشريط، اضطر الحزب الى الخروج عن صمته، غير أنه عوض ان يعد بفتح تحقيق في الموضوع ومساءلة المتورطين ان ثتبت صحة ادعاءات الأطفال، اصدر بلاغاً سخيفاً يدعي فيه أن الفيديو مفبرك وأنه من إنتاج اعداء نجاح المسيرة في إشارة إلى إعلام الحزب الحاكم.

هل من شأن هذه المادة الصحافية أن تزعزع ثقة المواطنين في مؤسساتهم الدستورية وتمس بسلامة الأمن الداخلي للدولة؟

الجواب هو نعم ولا.

نعم لأن إقدام نقابة حزب سياسي عريق على رشوة متظاهرين واستغلال أطفال والسفر بهم دون علم امهاتهم وآباءهم، وتعريض كرامتهم وربما حياتهم للخطر أمر كفيل بذلك.

ولا لو وقع سيناريو اخر غير سيناريو الصمت. فالشريط رغم بساطته وقصره عبارة عن تحقيق صحفي، والتقليد في الدول الديمقراطية يقول “حيث ينتهي التحقيق الصحفي يبدأ التحقيق القضائي”. نعم كان يفترض أن يبادر القضاء الى فتح تحقيق في الموضوع ومحاسبة النقابة والحزب ان تبث تورطهما والصحافي ان اتضح ان شريطه مفبرك.

كان يفترض ايضا ان يسائل الحزب نقابته لا أن يغطي عليها. وكان ضروريا ان تدخل وزارة التربية الوطنية على الخط، فهؤلاء تلاميذ وربما تخلفوا عن واجباتهم المدرسية. وكانت لتكتمل جمالية اللوحة الديمقراطية لو احتجت وزارة الشباب ووزارة الأسرة ولو قامت جمعيات المجتمع المدني المدافعة عن الطفولة بتبني الملف أمام القضاء.

لو حصل شيء من هذا لساهمت هذه القصة، على العكس، في تقوية ثقة المواطنين في مؤسساستهم الدستورية ولساهمت في تعزيز سلامة الأمن الداخلي للدولة.

نستنتج اذن من خلال هذا المثال، أن الذي ساهم في زعزعة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة هي نفسها هذه المؤسسات التي خذلت هذه الثقة بعدم وقوفها الى جانب الحقيقية، وهي نفسها التي تتجه اليوم نحو الأخطر: معاقبة من تجرؤوا على الكشف عن تلك الحقيقية. فأية رسالة تريد توجيهها؟

إن علاقة الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة يجب ان تكون متبادلة، لا من جانب واحد وإلا تحولت الى علاقة استغلال. كما أن هذه الثقة ليست شيكاً على بياض أو ولاءً مطلقًا أعمى، و إنما هو تعاقد مبني على مبادئ سامية أهمها ربط المسؤولية بالمحاسبة. وعليه فإن المؤسسات التي تتزعزع لمجرد انتقادها على إخلالها ببند من بنود هذا التعاقد هي مؤسسات فقدت الثقة حتى في نفسها، فكيف تطلب من الآخرين ان يثقوا بها؟!

إن متابعتنا اليوم بهذه التهمة الخطيرة، التي أُدِين بسببها عبد اللطيف اللعبي، سنة 1973، بعشر سنوات سجناً والمرتبطة اليوم بملفات الارهاب يؤكد على وجود جهات داخل الدولة قبلت على مضض سقف إصلاحات دستور 2011، وتَتُوق الى عهد خِلناه نحن قد ولَّى، لكن بالنسبة لها زمن بذِكريات أحلى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *