منوعات | هام

قبل أزمة البوركيني بنصف قرن.. حصل السود على حق ارتياد الشواطئ بأميركا

على بعد آلاف الكيلوميترات من شواطئ جنوب فرنسا، توجد لافتةٌ بأحد شواطئ ولاية ميسيسبي الأميركية.

إنها تلك اللافتة التي كُتِب عليها “مسيرات الرمال للحقوق المدنية” وتعطي نبذة قوية عن أحداث العنف التي شهدتها رمال الشاطئ فتقول: “في 24 أبريل 1960 أصيب العديد من المواطنين البيض منهم والسود بجراح كما اعتقل الكثيرون ومنهم قائد حركة الخوض في الماء، د. غيلبرت ميسون الأب”، بحسب تقرير نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، أمس الأربعاء 31 غشت 2016.

كان ذلك هو الاشتباك العرقي الأكثر عنفاً في تاريخ ولاية ميسيسبي بجنوب الولايات المُتحدة الأميركية، فوفقاً لبعض التقارير فإن 10 أصيبوا جراء إطلاق النار وأعداد أخرى جرحوا في الاشتباكات التي استخدم فيها الرصاص والحجارة واستمرت العنف طوال عطلة نهاية الأسبوع.

 

مسيرة الرمال الدموية

 

إذ إنه كان احتجاجاً من أجل إلغاء الفصل العنصري بشواطئ مدينة بيلوكسي، وأطلق عليه الناجون منه اسم “مسيرة الرمال الدموية”، وباستثناء تلك اللافتة الصغيرة على الشاطئ، فإنه تقريباً قد ذهب في طيّ النسيان، ولكن ذاك العدد القليل ممن نجو منه سرعان ما استرجعوه مؤخراً، عندما علموا بشأن حملة فرنسا على النساء اللاتي ترتدي ملابس محتشمة على شواطئها.

“لقد سمعت عن ذلك”، هكذا تقول غويندولين ماسون، البالغة من العمر الآن 75 عاماً والتي كانت في مرحلة المُراهقة إبان احتجاجات بيلوكسي، وأضافت: “تلك النساء الفرنسيات لديهن الحق أن يتواجدن هناك، مثل أي شخص آخر، فالشاطئ حق من حقوق الإنسان. إنه مكانٌ للبشر”.

ولكن المعركة في فرنسا مازالت في بدايتها فحسب، وفقاً لما تقوله غويندولين.

 

“على الشاطئ؛ نحن نحدّق في الظاهر والمُستتر”

 

يأتي الصراع القائم على الساحل الفرنسي في أعقاب عقودٍ من الخلاف الثقافي؛ ولكنه تأجج في الأسبوع الماضي عندما حاول العديد من رجال الشرطة الفرنسية المُسلحين فرض حظرٍ محلي على ما يُدعى “البوركيني”، بإرغام سيدة مُسلمة بمدينة نيس على التعرّي، في حين كان يشاهد مرتادو الشاطئ الآخرين.

وقد حظرت عشرات المدن بطول ساحل البلاد البوركيني، الذي يبدو إلى حد ما كشيء شبيه ببذلة الغوص، برداء علوي طويل وغطاء للرأس، وقد صُمِمَ من قِبل سيدة أسترالية مُسلمة، وظل ذلك الملبس غير مثير للجدل إلى حد ما، حتى نشب الخلاف الأخير في فرنسا، حسب تقرير الصحيفة البريطانية.

وفي يوم الجمعة، 26 أغسطس/آب 2016؛ أبطلت المحكمة الفرنسية العليا قرارَ الحظر في إحدى البلدات، ولكن السياسيين الأبرز في البلاد قد تعهدوا بإعادته، حتى وإن تطلّب ذلك تغيير الدستور.

سواء كنا في فرنسا أو في ميسيسيبي، تدفع الرمال بالبشر إلى حافة الوجود البشري.

ومن ورائها البحر الشاسع الذي لا يصلح كي يسكنه أحد، يضم في جنباته أحياء وكائنات صغيرة قصيرة الحياة. ما من مكان أبعد من ذلك نفر إليه، لذا في القارات كلها على تنوعها حول العالم يتجمع الناس على الشواطئ ليحدقوا في الأفق البعيد.

يقول البروفيسور جيمس باترسون سميث، الذي يجري أبحاثا بشأن الشاطئ لدى جامعة جنوب ولاية مسيسبي.: “إنها مثل قمة جبل في الطريق، إنها مكانٌ يقدِّم منظور الأفق”.

 

قصة البكيني والبوركيني

 

هنا يتعرض المرء للاستضعاف إن ارتدى ثياباً قد تبدو غير مناسبة. إن تاريخ ملابس السباحة يظهر لنا أنها متغيرة لا تستقر على حال، حسب المكان الذي يسبح فيه السابح، وحسب العصر الذي يسبح فيه.

ففي القرن الرابع، وبجزيرة صقلية؛ ارتدت النساء البيكيني، بحسب ما تُظهِر رسومُهم الفسيفسائية القديمة، وفي القرن الـ19؛ ارتدت النساء الغربيات “عباءات السباحة” من الأقمشة التي تصل إلى الكاحلين وتنتفخ بالهواء عند دخولهم المياه، إذ كانوا يتحركون على الأمواج كمنطادات هوائية تنتقل عبر المياه، فيما كانت تُحجب كافة معالم الأنوثة.

ووصلت أزياء السياحة إلى الحد الأقصى من انكشاف الجسد، في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما قام المصمم الأميركي النمساوي، رودي غرتنريش، بإعداد زيّ “المونوكيني” عاري الصدر، وحتى زيّ السباحة المكون من قطعة سفلية أصغر حجماً ويُدعى “البوبيكيني” أيضاً، وقد صمم تلك الأزياء كرد فعل على توقعات الغرب بأن النساء عليهن تغطية أجسامهن، بدلاً من أن تكن لهن حرية الاختيار.

ولا يزال بيانه الذي أطلقه عام 1985 كاسراً للقواعد في فرنسا، إذ قال رودي: “أنا لم أتمكن من تحمل النفاق الضمني الذي يجعل شيئاً ما في إحدى الثقافات أمراً غير أخلاقي، في حين أنه مقبول تمامًا في ثقافة أُخرى”.

 

التحفز الجنسي

 

فكل هذا التغطي بالملابس والتعرّي منها، بحسب سميث، قد جعل مرتادي الشواطئ يشعرون بالتحفّز الجنسي والقلق.

إذ يقول: “إن هذا يضفي طابعاً جنسياً على الشاطئ، ويجعلنا شديدي الحساسية تجاه الآخر”.

فعلى الشاطئ نحن نحملق فيما هو ظاهر وما هو مُستتر على حد سواء.

 

أي الأجساد ستُستعبد؟

 

في جنوب الولايات المُتحدة الأميركية؛ مثّل ذوو البشرة الداكنة حالة من الفوضى العنصرية على الشاطئ، فهناك أمكن للسود تمييع نظام اجتماعي قائم على اللون.

سميث قال: “كان السؤال الأساسي لليوم هو أي الأجسام بإمكانها أن تُستعبد، إذ إن شخصاً ذا أصول مختلطة كان يهدد النظام بأكمله”.

وهناك اختلافات هائلة بين فرنسا الحديثة وأحداث ميسيسبي التي وقعت في منتصف القرن الماضي؛ ومع ذلك فإن لديهم شيئاً مُشتركاً؛ وهو: أزمة الهوية.

فمن أجل ذلك، كان الناس يموتون في ميسيسبي.

تتذكر غويندولين ماسون أياماً بمدينة بيلوكسي، عندما كان يصطحبها جارها هي وأصدقاءها إلى الشاطئ، وكانوا صغاراً آنذاك، تقول غويندولين: “لقد كان رجلاً أسود، ولكنه كان يبدو أبيض”.

على الشاطئ كان يثبت كرسياً ويقرأ الصحيقة ويراقب الأطفال، في حين كان سائقو السيارات المارة على طريق الشاطئ يضغطون أبواق سياراتهم، ويصيحون بصوت عالٍ، وكان الجار يقول بهدوء: “لا تبالوا أبداً بذلك، فقط تقدّموا والعبوا”.

عندما كانت في سن المراهقة؛ شاهدت غويندولين طبيباً شاباً، يدعى جيلبرت ماسون – وهو مَنْ تزوجته لاحقاً – يقود سلسلة من المسيرات على رمال الشاطئ احتجاجاً على الفصل العنصري بشواطئ بيلوكسي. وكان رجلاً مثقفاً صاحب رؤية، كان صديقاً مقرباً من مدغار إيفرز الذي استشهد بعد وقت ليس ببعيد، بعد سنوات فحسب من مسيرة مارتن لوثر كينج وغيره من زعماء الحقوق المدنية في ولاية ألاباما.

وجذبت أول مسيرة على الرمال القليل فحسب من الحضور، وأبعدتهم الشرطة عن الشاطئ، في اتجاه الشريط الضيق المخصص للسود، وقال لهم الضباط إن الأميال الستة وعشرين الأخرى “مخصصة فقط للعامة”.

 

جاء بمفرده

 

وفي المسيرة الثانية على الرمال، أتى جيلبرت بمفرده، وحينها اعتقلته الشرطة.

وحاز جيلبرت مكانة كبيرة باعتباره الطبيب الأسود الوحيد بمدينة بيلوكسي، إذ كان يمارس مهنته من منزله، فيقوم بخلع الأسنان وتوليد النساء، وإجراء الجراحات لمجتمع السود. لذا؛ عندما اعتقلته الشرطة اتخذ أصدقاؤه إجراءً.

ففي 24 أبريل/نيسان قام 125 شخصاً من ذوي البشرة السوداء بالسير على رمال ذوي البشرة البيضاء، وشرعوا في اللعب والاستلقاء في الشمس والنظر إلى اتساع البحر شأنهم شأن سائر البشر.

 

الشرطة تضرب بالهراوات

 

وذلك قبل ظهور أشخاص بيض طويلي القامة حاملين هراوات وسلاسل وإطارات معدنية، وحينها تنحّت الشرطة جانباً وشاهدت هذه المجموعة تهاجم وتضرب المُحتجين، تاركين إياهم ينزفون ومُصابين بكسور، واستمرت المشاجرات طوال عطلة نهاية الأسبوع، كما قُتِل اثنان من السود عندما اجتاحت مجموعة غوئائية من البيض أحياء السود.

وفي عام 1968، نال السود في نهاية المطاف الحق في زيارة الشواطئ العامة، كما نال جيلبرت ميسون الحق في مارسة الطب بالمستشفيات العامة بعد 15 عاماً؛ ولكن الأمر قد استغرق كل هذه السنوات كي يتقبل الناس التغيير، بحسب ما تقول أرملته.

إذ تقول غويندولين: “علينا مواصلة القتال ومواصلة القتال ومواصلة القتال”.

وقد زارت سيدة شابة ذات بشرة سوداء، تُدعى إيرين بريور، شاطيء بيلوكسي، وموقع مسيرة الرمال، ولم تكن قد سمعت بِشأن الأمر من قبل.
فقد مرّت باللوحة التاريخية، التي تحتوي على مُلخص موجز، وقرأتها، ثم أعادت قراءتَها مجدداً ومجدداً، وقالت: “إنه شعور غريب، أنا أشعر بالامتنان”.

 

أنا مسيحية

 

وكانت إيرين قد سمعت بشأن قضية النساء المسلمات في فرنسا وملابسهن، وأمسكت بتنّورتها الطويلة التي ترفرف مع النسيم وقالت: “أنا مسيحية؛ ولكن ينبغي أن يُسمح للناس الإيمان بما يؤمنون به، كيف لك أن تغير عقيدة شخص بإجباره على خلع ملابسه؟ إنه مُستحيلٌ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *