ملفات

تقرير: الـ PJD يؤدي ثمن تحركه المزدوج لارضاء القصر والسعي للحكم

أصدر مركز “كارنيغي” للشرق الأوسط تقريرا مطولا، سلط فيه الضوء على أبرز ما عرفته الساحة السياسية المغربية منذ  فترة  تولي حزب العدالة والتنمية زمام رئاسة الحكومة سنة 2011 غداة التعديلات الدستورية التي عرفتها البلاد بعد احتجاجات حركة 20 فبراير.

مؤشّرات التغيير

يتمثّل الإرث الأبرز الذي خلّفته ولاية حزب العدالة والتنمية من العام 2012 إلى العام 2016، في الجهود التي بذلها لمنح الحكومة دوراً أكبر. كان بنكيران، قائد حزب العدالة والتنمية آنذاك ورئيس الوزراء، قادراً على التعامل مع النظام الملكي على أنه في الوقت نفسه معرقل ومصدر للمصداقية ، مُميطاً بذلك اللثام عن الخطوط الحمراء للقصر، ومُظهراً قدرته على اللعب داخل حدود النظام السياسي.

على الرغم من أن سجل حزب العدالة والتنمية في عملية الإصلاح كان متبايناً – خاصة في ما يتعلق بمكافحة الفساد والسلطة القضائية والاقتصاد الهيكلي – إلا أن الحزب تمكّن من إقناع المواطنين بقدرته على الحكم، وهذا تجلّى في نجاحاته في الانتخابات المحلية والجهوية، وفوزه الحاسم في الانتخابات الوطنية العام 2016.

مستقبل غامض

يُدرك حزب العدالة والتنمية التحديات التي تواجهه بفعل تحرُّكه المزدوج لاسترضاء القصر والحكم بشكل فعّال في الوقت نفسه. وقد كشفت الجهود التي بذلها حتى الآن عن أوجه التناقض المتأصلة في هذه العملية، والتكاليف المترتبة على السعي وراء المهمتَين في آن.

اختتم المؤتمر الثامن للحزب، الذي عُقد في ديسمبر 2017، مناقشاته المثيرة للخلافات حول القيادة برفضه سعي بنكيران لتولي منصب الأمين العام لولاية ثالثة. لكن الحزب لايزال يرأس ائتلافاً كبيراً وضعيفاً يزيده تضعضعاً تدخّل القصر في شؤون الإدارة العامة. لكن، إذا ما تمكّن حزب العدالة والتنمية من أن يوضح للشعب طبيعة القيود المتزايدة التي تواجهه، فقد يتغلب على تداعيات ماحصل خلال الأشهر القليلة الماضية. وأثبتت تجربة حزب العدالة والتنمية أن ثمة نهجاً بديلاً، ولو كان محفوفاً بالمخاطر، يمكن أن تعتمده الأحزاب السياسية في المغرب، إن كانت على استعداد لتبنّيه.

وقد وعدت الإصلاحات الدستورية التي طرحها الملك محمد السادس، والتي أتت كاستجابة لاحتجاجات العام 2011، بضخ حيوية أكبر في شرايين السياسات المغربية القابلة للتوقّع، كما وفّرت فرصة للطبقة السياسية فاقدة الصدقية. بيد أن التطورات الأخيرة تشي بأن هذه القصة باتت تقف الآن أمام منعطف.

في البدء، فتحت الإصلاحات الدستورية الفضاء السياسي ووفّرت فرصة للأحزاب كي تلعب دوراً أكبر في حكم البلاد. وهذا مهّد الطريق أمام حزب العدالة والتنمية الإسلامي المغربي لاقتطاع دور أكبر للحكومة في الفترة بين 2012 و2016. وهكذا، وبعد إحراز بعض التقدم الملحوظ في حقول إصلاحية رئيسة، انطلق الحزب، الذي كان بقيادة رئيس الوزراء آنذاك عبد الإله بنكيران، إلى حصد أغلبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول/أكتوبر 2016، وهذا لأن الشعب اعتقد أن الحزب بات قادراً على ممارسة السلطة. لكن القصر سرعان ما بدأ يعتبر نجاحات الحزب بمثابة تهديد له.

فالقصر، وبعد أن حقق حزب العدالة والتنمية نصره الانتخابي التاريخي الثاني، ناور لمنع بنكيران من تشكيل ائتلاف ثانٍ، مُستخدماً أسلوب التلاعب السياسي بالأحزاب المعارِضة والشركاء السابقين، على الأرجح بهدف إرساء ثقل موازِن في مقابل شعبية حزب العدالة والتنمية، وفي الوقت نفسه لحماية مصالحه (القصر) الخاصة السياسية والاقتصادية.

وفي مارس 2017، دعا الملك إلى استبدال بنكيران، وسمّى الشخصية الأكثر تدجيناً في الحزب، سعد الدين العثماني، رئيساً مكلَّفاً للحكومة. ثم، خلال المؤتمر الثامن للحزب في 9 و10 ديسمبر، انتخب الحزب العثماني أميناً عاماً، طابعاً بذلك قبلة الموت على تطلعات الزعامة لدى بنكيران.

وهكذا، تمكّن القصر، من خلال تحييده لبنكيران والضغط على حزب العدالة والتنميةلتشكيل ائتلاف أكبر، من خلق الظروف لتأليف حكومة ضعيفة بقيادة الحزب، ما أسفر عن انشطارات داخلية فيه وجعله عاجزاً عن استثمار نصره الانتخابي ونجاحاته الإصلاحية. وبالتالي، فإن فهم معنى تدخُّل القصر ضد هذا الحزب والتبعات الأوسع لهذا الأمر على تقدُّم البلاد، يتطلّب تدقيقاً عن كثب بكلٍ من تجربة الحزب في السلطة، وبكيفية قيامه باختبار نبض الخطوط الحمر التي يضعها القصر، فيما هو يحتفظ بولائه له، وعلاقاته المباشرة مع الشعب المغربي. والحال أن القصر واللاعبين السياسيين الآخرين إما أنهم أساءوا التقدير، وإما فشلوا في توقّع أن يكون بمقدور أي حزب سياسي أن يقتنص فرصة الانفتاح الدستوري ويترجمه إلى نصر انتخابي وتواصلٍ أكبر مع الشعب. وبدا أن بنكيران وحزب العدالة والتنمية وحدهما أدركا كلياً الفرص التي يتيحها اهتمام المواطنين المُطّرد في السياسات وشعورهم بالقدرة على التأثير السياسي غداة 2011.

يتعيّن عدم الانتقاص من إنجازات حزب العدالة والتنمية بعد 2011، بكل ما تتضمّنه من تأثيرات على الممارسة الأوسع للسلطة في المغرب. ذلك أن الإرث الرئيس لتجربة هذا الحزب في قيادة الحكومة من 2012 وحتى 2016، تمثّل في جهوده للتفاوض حول دور أكبر واستقلالية أوسع للحكومة، وبالتالي للحزب. وعلى رغم أن هذا التقدُّم الخاطِف ينحو الآن نحو الجمود، إلا أن تجربة الحزب تبقى مادة دسمة لدراسة كيفية قيام لاعب سياسي ببلورة مقاربة حكم بديلة ومحاولة إعادة تعريف علاقته بالقصر. أما بالنسبة إلى هذا الأخير، فإن تجربة حزب العدالة والتنمية، التي تُعتبر ناجعة بما فيه الكفاية لتثير رد فعل حاداً، تُهدد بتبديد الفكرة بأن اللاعبين السياسيين عاجزون ولاحول لهم ولا قوة.

تَجسَّدَ رد فعل المَلَكِيَة على سعي حزب العدالة والتنمية إلى منح البرلمان والأحزاب السياسية دوراً أكبر، وفق ما ينص عليه دستور المغرب للعام 2011، في التوجّه إلى التراجع عن الانفتاح السياسي قصير العمر، والعودة ثانيةً إلى ممارسة القبضة الثقيلة في مجال التلاعب بالسياسات والأحزاب السياسية. بيد أن إعادة توكيد السيطرة المَلَكِيَة بمثل هذه الطريقة الفجّة قد تولّد غضباً شعبياً. ذلك أن إحدى الموروثات التي لاتزال حية لاحتجاجات 2011، هي اهتمام المواطنين بمصيرهم ومستقبلهم السياسي. ثم أن الاضطرابات في منطقة الريف الأوسط شمال البلاد والتي استمرت لشهور عدة، كانت أحد الأمثلة على الكيفية التي يهتم فيها المواطنون المغاربة على نحو متزايد بسياسات البلاد وتطورها، ورغبتهم بامتلاك هذه التوجّهات، عبر المطالبة بحوكمة أفضل، وشفافية أكبر، وفرص اقتصادية أوسع، واحترام أوثق لحقوقهم السياسية.

والحال أن المغرب قدّم بديلاً عن المسارات السياسية في حقبة مابعد 2011 في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط. فالقصر، بتجنّبه لهيب الثورة، حافظ على الاستقرار والسلام. وعبر إفساحه حيّزاً للمجال السياسي، سمح للمواطنين بأن يداعبوا الأمل ببحبوحة أكبر والمشاركة في سياسات البلاد. لكنه اليوم يدفع باتجاه المزيد من الاستقرار الاقتصادي والأمني، حتى فيما يُغلق أبواب الانخراط والاستقلال السياسيين. لكن تعزيز الازدهار الاقتصادي والتنمية يعتمد على قوة مؤسسات البلاد، التي تتعرّض الآن إلى وطأة القبضة المَلَكية، ما قد يجعلها قيد التبدُّد. وطالما أن المَلكِيَة تقاوم مسألة السماح لهذه المؤسسات بأن تصبح قوية ومستقلة، سيبقى التطور الاجتماعي والاقتصادي طويل الأمد للبلاد محدوداً، وستكون احتمالات عدم الاستقرار قوية.

القصر وتقاسم السلطة

يتمتع المغرب، على النقيض من الملكيات العربية الأخرى، بتاريخ من التنوّع في الأحزاب السياسية المعروفة أيضاً بديناميكيتها، وتجري فيه انتخابات دورية. بيد أن هذه الأحزاب نادراً ما مارست قبل العام 2011 أي سلطة فعلية منفصلة عن القصر. لا بل الواقع أن الملكية دعمت نظام تعددية الأحزاب، لضمان ألا يتمكّن أي حزب بمفرده من الهيمنة على الساحة السياسية، ما قد يؤدي بالتالي إلى ضعضعة سلطتها هي.

هناك حالياً 33 حزباً سياسياً مرخّصاً له في المغرب، تغطي كل أطياف الإيديولوجيات السياسية، من الشيوعية إلى الإسلاموية. وهي تتباين في الحجم والأهمية، والأبرز بينها هو حزب العدالة والتنمية (PJD)؛ وحزب الاستقلال أقدم حزب في المغرب ويمثّل اليمين الوسط ويُحتفى بتاريخه كقائد لحركة الاستقلال؛ والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP)، وهو اليسار الوسط وحامل مشعل المعارضة خلال سنوات القمع التي مارسها الملك الحسن الثاني. ثم هناك أيضاً مروحة من الأحزاب وثيقة الصلة بالقصر، بينها التجمّع الوطني للأحرار (RNI)، والاتحاد الدستوري (UC)، والحركة الشعبية (MP)، وحزب جديد نسبياً في السياسات المغربية هو حزب الأصالة والمعاصرة (PAM) الذي أسّسه العام 2008 فؤاد عالي الهمة، وهو صديق مقرّب ومستشار للملك محمد السادس، ويُعرف عنه على نطاق واسع أنه يكنّ البغضاء للإسلاميين.

حين تسنّم محمد السادس العرش العام 1990، ورث عن والده الحسن الثاني نظاماً يولّد سياسات حزبية جامحة ثمّ يقوم باستغلالها، بهدف بعثرة الطبقة السياسية وتشويه سمعتها. وهذا أمر يساعد الملك على توطيد عملية احتكاره للسلطة.3 وقد عزّزت الصراعات المتكررة داخل الأحزاب المغربية، وكذلك سوء تنظيمها، هذه الاستراتيجية.

مضى الملك محمد السادس قُدُماً في تعزيز التقليد القاضي بأن يشتق الحزب السياسي نفوذه من مدى قربه من القصر، بدلاً من التركيز على جاذبية إيديولوجيته أو برنامجه. ومع الوقت، بات من الصعب التمييز بين الأحزاب المُعارضة وتلك الموالية، بسبب اندفاع الأحزاب، إما بمحض اختيارها أو بحكم الضرورة، إلى التقارب من القصر لضمان استمراريتها السياسية. وبهذه الطريقة، خسرت الأحزاب بشكل مطّرد روابطها مع الناخبين، ما ضاعف من خيبة أمل هؤلاء في نخبهم السياسية. وهذا تجسّد في الفجوة العامة التي برزت بين المواطنين وبين العملية السياسية، وفي الإقبال الضعيف على الانتخابات، وأيضاً في فقدان الثقة بالسياسيين، خاصة في أوساط الشباب.

كانت ماتسمى حكومة التناوب (Gouvernement d’Alternance) في أواخر التسعينيات، أجلى مظاهر التحدي الذي يواجه الأحزاب السياسية المغربية. فغداة انتخابات وفمبر 1997، دعا القصر الأحزاب اليسارية في المعارضة، بما في ذلك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى تشكيل حكومة، كجزء من خطة إصلاح مُفترضة. وفي مارس 1998، شكّل الاتحاد الاشتراكي حكومة ائتلافية مع ستة أحزاب أخرى. وعلى رغم أن القصر عرقل بحدة عمل هذه الحكومة، إلا أنها رفعت من منسوب التوقعات حول الإصلاحات. لكن في خاتمة المطاف، أعاقت تدخلات القصر والخلافات الداخلية في الأحزاب وبينها، والتي كان قد ثبت أنها كلها عقبات كأداء وتعجيزية، جهود الإصلاح.

وصلت الحكومة بقيادة الاتحاد الاشتراكي، مثلها مثل تلك التي تزعّمها لاحقاً حزب العدالة والتنمية، إلى الحكم في العام 1998 في أعقاب تغييرات دستورية منحت صلاحيات أوسع للحكومة والبرلمان. بيد أنها عانت الأمرّين خلال محاولتها تحديد دور لنفسها في مواجهة المّلَكية القوية. وفي حين أن حزب الاتحاد الاشتراكي كان له دور رسمي في الحكومة، إلا أن عجزه عن الشروع في تنفيذمشاريع مهمة في مجال الضمانات الاجتماعية، أثبط سمعته. تعيّن على الحكومة بقيادة الاتحاد الاشتراكي أن تتعايش مع وجود وزراء متحالفين مع القصر كانوا يعيقون عملها (خاصة، في البداية، من جانب إدريس البصري وزير الداخلية بالغ القوة الذي كان اليد اليمنى للحسن الثاني). ثم، حالما اعتلى الملك الجديد العرش، سارع إلى وضع يده على قضايا كانت الحكومة تطرحها على رأس أولوياتها أو تنوي معالجتها، على غرار حقوق الإنسان، وتمكين المرأة، ومبادرات اجتماعية واقتصادية أخرى. وهكذا، بدت الحكومة أمام المواطنين مهمّشة كلياً ولا نفع لها. وفي الوقت نفسه، ضمنت المَلَكية، من خلال التمظهر بأنها تعطي مثل هذه الأحزاب حصة في النظام فيما هي في الواقع تحكم قبضتها عليها، أن تُمنى هذه الأحزاب بالفشل في أعين الرأي العام، ما يقوّض أي فكرة بأنها قد تصبح شريكة فعّالة للملكية أو بديلاً عنها.

وهنا برزت اللوحة التالية: فيما كانت مدركات الرأي العام حول الأحزاب السياسية تشهد انحداراً حادا، سُلِّطت الأضواء مرة أخرى على القصر بصفته القوة الأكثر قدرة على تلبية المطالب الشعبية. وقد عزّز الملك محمد السادس، خاصة في بداية عهده، شهرته في صورة الملك العطوف والكريم، الأمر الذي خلق شعوراً بقرب ولوج حقبة جديدة من الانفتاح والبحبوحة بدفعٍ من القصر. وهذا تسبّب بمزيد من التهميش للأحزاب. فقد اعترف الملك بالخروقات السابقة لحقوق الإنسان، وسعى إلى معالجة قضايا التنمية والفقر المدقع. والأهم من بين هذه الجهود كانت إصلاحات مُدونة الأسرة، أو اختصاراً المدونة (قانون الأحوال الشخصية)، العام 2004، والتي تضمّنت تحسينات قيّمة في مجال حقوق المرأة. وفي العام 2004 أيضاً، شكّل الملك هيئة الإنصاف والمصالحة لمعالجة التجاوزات السابقة لحقوق الإنسان، كما أطلق في العام 2005 عدداً من برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، هذا علاوة على مبادرات خيرية خاصة على غرار مؤسسة محمد الخامس للتضامن التي أُسست العام 1999.

كل هذا جعل شعبية الملك مرتفعة محليا. فقد أظهر استطلاع أُجري العام 2009 أن 91 في المئة من المواطنين المغاربة يعتبرون فترة السنوات العشر من حكمه إيجابية. كذلك، أبدى المجتمع الدولي إعجابه على وجه الخصوص بجهود الملك التي كانت، حين تُقارَب من زاوية مقارنة، تقف على طرفَي نقيض من الحكم التعسفي لوالده، لكن في الداخل، عزّزت أيضاً إصلاحات الملك ومبادراته، التي حظيت بتصفيق المواطنين، الديناميكيات السياسية التقليدية في البلاد. فالعاهل المغربي كان السلطة الحاكمة النافذة، فيما افتقدت الأحزاب إلى الفعالية، لا بل هي تسبّبت حتى بتأثيرات عكسية على قضية التقدّم في البلاد. وعلى رغم أن الرأي العام كان يشعر بالحبور لانتهاء الحقبة الأكثر قمعية في عهد الحسن الثاني، إلا أن وتائر الحماسة لما يمكنه إنجازه، بدأت تتناقص تدريجاً، بعد أن بات واضحاً أن محاولات الإصلاح لاتعدو كونها جهوداً شكلية، ولا تصل إلى درجة توفير التغيير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المنشود الذي تشتد الحاجة إليه.

في إطار هذا السياق بالتحديد، اندلعت شرارة الاحتجاجات الشعبية في طول البلاد وعرضها في العام 2011. في فاتحة تلك السنة، سعى الملك محمد السادس إلى استباق السرديات المناوئة للحكومة والتي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط برمتها.

ففي مارس 2011، كانت هذه الاحتجاجات قد أسقطت بالفعل النظامين الراسخين لكل من الرئيس المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، وأغرقت ليبيا في لجج حرب أهلية. وفي المغرب، نجحت الاحتجاجات، التي أُطلق عليها اسم حركة 20 فبراير، في لم شمل المواطنين المغاربة وتجاوز التباينات في أطيافهم الإيديولوجية والدينية والاجتماعية والسياسية. وقد اشتد ساعد هذه الاحتجاجات في البلدات المغربية، وطَفَقَ المحتجون يطالبون بإيجاد حلول للقضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحّة في البلاد، إنما وفي شكل أساسي للمسائل السياسية المتواصلة في البلاد والتي تشمل غياب المساءلة، والفساد، والمحسوبية، وانعدام فعالية المؤسسات الحكومية، من جملة أمور أخرى.

ردّ الملك في 9 مارس2011، بعد أسبوعَين ونصف الأسبوع من اندلاع الحركة الاحتجاجية في المغرب، بأن وعد في خطاب متلفز بإدخال تغييرات دستورية، وحينها، بدأت حركة 20 فبراير بالانحسار تدريجا، أساساً لأن خطوة الملك سحبت البساط من تحت أقدامها، وأيضاً لأن الناس شعروا بالرضى للوعود التي أغدقها الملك وللطريقة التي ردّ بها على الاحتجاجات. كذلك، افتقدت الحركة إلى هيكلية تنظيمية قوية تمكّنها من الحفاظ على تماسكها، وبالتالي ساهم تنوّع الآراء والأفكار، الذي كان في البداية مصدر قوتها، في تضعضعها في نهاية المطاف. علاوة على ذلك، سرت ادعاءات بأن الموالين للحكومة اخترقوا صفوف الحركة وسعوا إلى إضعافها من الداخل. ومع ذلك، كمنت المساهمة الأساسية للحركة في أنها ساعدت على ولادة التعديل الدستوري، الذي وفّر بدوره دوراً أكبر للمؤسسات الحكومية. كما أظهرت الحركة المدى الذي يمكن أن يذهب إليه المواطنون، حين يعتبرون أن التغيير مُمكن، فيساعدون بذلك على انبلاج عهده.

أُقِرّ الدستور الجديد، خلال استفتاء يوليو 2011، بأغلبية 98 في المئة، وشارك فيه نحو 73 في المئة من الناخبين المُسجلين، ما فاق بكثير المشاركة في معظم الانتخابات السابقة، وأبرز بجلاء عمق التوقعات الشعبية حيال التغيير. وعلى رغم أن التغييرات الدستورية كانت أقل مما كان يأمل الكثيرون، إلا أنها وسّعت صلاحيات رئيس الحكومة، والحكومة، والبرلمان، وسمحت لهذه المؤسسات بأداء دور أكبر في عمليات الحكم والتشريع، في الوقت نفسه الذي حافظت فيه على دور الملك.

فتحت التعديلات الدستورية، من حيث المبدأ، فرصاً أمام الأحزاب لزيادة انخراطها في العمل السياسي، لكن كل هذه الأحزاب، ماعدا الإسلامية منها، وجدت نفسها عاجزة عن اغتنامها. في كل البلدان العربية التي شهدت انتفاضات في 2011، كان تموضع الحركات الإسلامية، خاصة حزب العدالة والتنمية المغربي، أفضل من القوى السياسية التقليدية، وأكثر قدرة على الإفادة من البيئة السياسية الجديدة. وفي حين أنه كان معلوماً أنهم (الإسلاميون) جزء من المنظومة السياسية نفسها التي لم يكن المغاربة يحبونها، إلا أن حزب العدالة والتنمية حافظ على درجة نسبية من الصدقية التي ترجمت نفسها مزيداً من الأصوات في أقلام الاقتراع. صحيح أن الحزب رسم مسافة بينه وبين احتجاجات حركة 20 فبراير، إلا أن الصحيح أيضاً أن الانفتاح السياسي مكّنه من الإفادة من سمعته كلاعب سياسي أقل فساداً نسبيا. والواقع أن برنامجه الواضح، وتنظيمه الداخلي الأكثر ديمقراطية، وروابطه القوية بالقواعد الشعبية، وشهرته كطرف سياسي مُستقل نسبياً، كل ذلك جعله جذاباً في أعين المواطنين. إضافة إلى ذلك، كانت تجربته المحدودة في الحكم مصدر فائدة له في هذه الحالة، خاصة حين نضع في عين الاعتبار شكوك الرأي العام إزاء القوى السياسية التقليدية. فهذا الحزب الذي يشارك في الانتخابات منذ العام 1997 حين فاز بثمانية مقاعد، زاد حصته من المقاعد البرلمانية باطراد، لكنه بقي في صفوف المعارضة حتى العام 2011.

قبيل العام 2011، لم يُعرف عن حزب العدالة والتنمية أنه حقّق شيئاً يُعتد به في إطار العملية السياسية، لكن نواب الحزب في البرلمان كانوا أكثر كفاءة من نظرائهم ولم يكونوا يندفعون بالكامل وراء المصالح الخاصة. في ذلك الوقت، كان الحزب يركّز على تحسين أوراق اعتماده في مجال الحوكمة، فيما هو يُعزز وجوده المحلي وتواصله مع القواعد الشعبية. كان نشطاً في الجامعات والمدارس عبر هيئات المجتمع المدني، خاصة حركة التوحيد والإصلاح، وهي جمعية خيرية وتعليمية كبيرة (وأيضاً دعوية) لها وجود في طول المملكة وعرضها، وتدعمها شبكة خارجية مرتبطة بها على نحو فضفاض تتكوّن من المدارس، والمراكز الصحية، وغيرها من الهيئات المهنية. تُعتبر حركة التوحيد والإصلاح غالباً الذراع الدينية لحزب العدالة والتنمية وأداته الإيديولوجية. كما أن تاريخ كلٍ من هاتين المؤسستين متداغم ولاتزالان تنهلان من مورد المواهب نفسه، أي أعضاء قيادة الحزب. كان للوزراء والوزراء السابقين دور في حركة التوحيد والإصلاح، وهم حافظوا على صلات مكينة، جنباً إلى جنب مع أقنية تنظيمية، معها. وعلى رغم أن أعضاء كل من الحركة والحزب ينفون أي تدخّل من قبلهما في الشؤون الداخلية لكلٍ منهما ويُصرون على أنهما مُنفصلان، إلا أن روابطهما قوية وقد وُصِفَت بأنها قائمة على “التعاون الاستراتيجي”.

لم تفعل العلائق بين الحزب وبين الحركة، خاصة مع الدور الدعوي الديني لهذه الأخيرة، سوى مفاقمة النقاش حول المسألة الأوسع المتعلّقة بالطبيعة الدقيقة لما هو سياسي في مقابل ما هو ديني في الحزب. فقد أصبح الحزب، بعد تطوّره وازدياد مشاركته السياسية، أقل تجسيداً على نحو مطّرد للإطار التقليدي للأحزاب الإسلامية. وهذا كان صحيحاً على وجه الخصوص منذ وصول الحزب إلى السلطة العام 2011. وفي ما يتعلّق بدور الدين وكيفية تشكيله لعملية الانخراط السياسي للحزب، كان الهجوم الإرهابي قبل عقد من الزمن، في العام 2003، على الدار البيضاء وما تبعه من رقابة وتمحيص للإسلام السياسي، هو الذي دفع الحزب إلى التشديد على نقاط التشابه بينه وبين الأحزاب السياسية الأخرى في المغرب. ومع تنامي انخراطه في السياسات الوطنية، تعيّن عليه تلطيف وتقليص تركيزه على طابعه الديني. والواقع أن الحزب نشط في الممارسة، وإلى حد كبير، خاصة خلال حقبته في الحكومة، كأي حزب علماني. إذ انحسرت كثيراً العوامل المُحافظة اجتماعياً في أجندته، وبنكيران، الذي كان يُعتبر سابقاً شخصية مُتشددة، أدرك أن السعي إلى تطبيق برنامج ديني- أي محافظ اجتماعيا- سيؤدي إلى حصر حزب العدالة والتنمية في إطار ضيّق ومنعه من كسب دعم واسع. وهكذا أعلن بنكيران في العام 2011، بصفته رئيس الوزراء المُكلَّف، أنه حال ترؤسه الحكومة “لن أكون مهتماً أبداً بالحياة الخاصة للناس. فالله خلق البشر أحرارا.ومنذ ذلك الحين، لم لم تعد نبرة الحزب أو نقاط تركيزه تميّزه عن الأحزاب الأخرى اللادينية التوجُّه سوى في ما قل وندر.

كانت صلة حزب العدالة والتنمية بالناس، مثله مثل بقية الحركات الإسلامية في المنطقة، ذات طابع مهم وشكّلت رصيداً له. فمن الناحية السياسية، طمأنت مقاربات الحزب التدريجية والمتواضعة في ما يتعلق بالمشاركة في الحياة السياسية، جنباً إلى جنب مع دعمه الجلي لدور الملكية الديني والسياسي – طمأنت إذاً الملك بأن الحزب لايشكّل تهديداً للنظام السياسي. ومثل هذا الإجلال والمراعاة للملكية- المطلوبَين للبقاء في اللعبة السياسية- والمشاركة التدريجية في الانتخابات، حمل في طيّاته أجندة أكثر براغماتية ابتعاداً عن القضايا الدينية والدوغمائية المثيرة للانقسامات، خاصة بعد العام 2013. وقد أسفر التقاطع بين تجربة الحزب وبين مناخات مابعد 2011 في المغرب عن توفّر وضع مثالي للحزب. فهذا الأخير، وبسبب عدم تقاربه كثيراً مع القصر كي لا يُعتبر مُستتبعاً له، لكنه قريب منه بما فيه الكفاية كي يتمكّن من المشاركة في السياسات، أومأ بأنه سيركّز على خدمة الشعب المغربي. وقد تردد صدى هذه الرسالة في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر العام 2011، حين تبوّأ الحزب المركز الأول وحصد 107 مقاعد من أصل 395 في مجلس النواب، تلاه حزب الاستقلال الذي حصل على 60 مقعدا. وفي 29 نوفمبر، ووفق منطوق الدستور الجديد، طلب الملك من عبد الإله بنكيران، قائد حزب العدالة والتنمية، تشكيل الحكومة. وبعدها بشهر واحد تقريباً، شكّل بنكيران حكومة ائتلافية ضمّت إلى حزبه أحزاب الاستقلال، والحركة الشعبية، والتقدّم والاشتراكية.

حزب العدالة والتنمية في السلطة بين 2011 و2016

وجد حزب العدالة والتنمية نفسه في مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخه. فهو إلى جانب كونه يقود ائتلافاً حاكماً ويعمل مع خصوم سياسيين سابقين، يطبّق، بمعنى أوسع، دستوراً جديداً ينطوي على العمل عن كثب مع القصر. فإلى أي مدى، إذاً، كان الحزب طليق اليد في طرح الإصلاحات الدستورية وبالتالي تغيير أسس ومداميك السياسات المغربية؟ الأمر المحتّم هنا أن يأتي الجواب مُبهماً ومُلتبسا.

فقد تطوّرت أول حكومة للحزب وفق ثلاث مراحل متباينة. ففي الفترة بين يناير 2012 ويوليو 2013، كان الحزب يتعلّم الإبحار في لجّة نظام سياسي جديد لايتمتع فيه بأي خبرة حكم سابقة. هذه المرحلة غير الناجحة إلى حد ما، شهدت نهايتها مع انسحاب حزب الاستقلال- الذي أصبح بشكل متزايد أكثر ولاء للقصر- من الحكومة، ما أجبر حزب العدالة والتنمية على تشكيل ائتلاف جديد أدخله في المرحلة الثانية التي بدأ يُطبق فيها أجندته بسهولة أكبر. وفي المرحلة الثالثة، بدءاً من خريف 2015، ركّز الحزب على دورتَين اثنتين مهمتين: الانتخابات المحلية والجهوية (المحافظات) في 2015 والانتخابات الوطنية في 2016.

حالما أمسك حزب العدالة والتنمية بزمام السلطة، توافرت له فرصة ضمان دور أكثر حيوية للبرلمان والحكومة. وهو أطلق أملاً ما بأنه يستطيع التعامل مع الخطوط الحمر الملكية، على رغم ما أُشيع عن توترات بين الحكومة الجديدة التي يقودها الإسلاميون وبين القصر. وبالاجمال، رسمت التغطية الإعلامية صورة لحزب العدالة والتنمية على أنه يقارب ببطء تعقيدات نموذج الحكم في البلاد ومحدوديته.

تعلُّم التعايش (2012-2013)

تعيّن على الحزب في البداية أن يركّز على اقتطاع حيّز له في داخل الهيكلية السياسية الجديدة (خاصة في مقابل القصر) وتحديد أين تبرز الفرص والقيود. وبهذا المعنى، كانت تركيبة حكومته الأولى، التي وافق عليها الملك في 3 يناير 2012، ذات أهمية خاصة له. فالحزب سعى إلى حصد ما أمكنه من النفوذ وإلى خلق سابقة حول الكيفية التي يمكن فيها لحزب قيادي أن يوازن بين مصالحه وبين مصالح القصر. ولاعجب بعد ذلك أن يعمل القصر على ضمان ألا يتنازل عن مزيد من السلطة أكثر مما يحتاج الأمر بموجب التعديلات الدستورية الجديدة.

خلال هذه الفترة، أظهر الحزب حرصاً على إبداء التزامه بتحقيق التغيير، فيما هو يتجنّب إثارة حفيظة الملكية. كما أنه تمكّن من الفوز بالسيطرة على مناصب وزارية رئيسة على رغم الضغط المعاكس الذي مارسه القصر. وهذه شملت وزارة العدل التي تسنّمها مصطفى الرميد ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي التي ترأسها سعد الدين العثماني. بيد أن القصر احتفظ بقدر من الرقابة عبر مستشاريه الذين اعتُبروا بمجموعهم بمثابة حكومة ظل تقبض على ناصية صلاحيات واسعة، وكان بينهم وزير الخارجية السابق طيب الفاسي الفهري، وفؤاد عالي الهمة، الصديق المقرّب من الملك والخصم البارز لحزب العدالة والتنمية.

لم يكن مفاجئاً بعد كل ذلك أن يُواجه الحزب توترات مع الملكية ومستشاريها حول مدى وطريقة مقاربة الإصلاحات، مثل استقلال القضاء، ومستويات الدعم، ومكافحة الفساد. وهذا أبان للرأي العام أن بنكيران، بالمقارنة مع باقي القادة الحزبيين، يمتلك القدرة والإرادة لمواجهة القصر. بالطبع، لم يتحدَّ رئيس الوزراء قط الملك جهاراً، لكنه لم يتردد أيضاً في الإشارة إلى القيود التي يضعها القصر على قدرة الحكومة على العمل وفق منطوق الدستور.

ساعد هذا التنابذ الدوري بنكيران على تحصين نفسه إزاء الامتعاض الشعبي، فيما لو واجه هو وحزبه انتقادات حول مناحي فشل معيّنة. كما أن هذا التنابذ أبرز المدى المعروف للغاية، ولكن نادراً ما يشار إليه بالبنان، لسيطرة القصر على السياسات في المغرب. وهذا مكّن على وجه العموم بنكيران من الادعاء بأنه يكافح الوضع القائم بهدف خدمة المواطنين على نحو أفضل. كما أنه نجح في تحويل التوتر بين الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية وبين القصر إلى مكسب سياسي، من دون تعريض مكانته أو فرص حزبه للبقاء في السلطة إلى الخطر. مثل هذا الاستخدام المزدوج للملكية كمعرقل وكمصدر للمصداقية في آنٍ لم يكن تناقضاً، بقدر ما هو أظهر قدرة رئيس الحكومة على اللعب داخل حدود النظام السياسي.

والحال أن التوترات طيلة السنة الأولى، وإلى درجة أقل خلال بقية فترة حكم حزب العدالة والتنمية، حول مسألة نطاق صلاحيات وسلطات رئيس الوزراء والحكومة، تواصلت مع القصر. على سبيل المثال، خاض نواب حزب العدالة والتنمية صراعاً في العام 2013 لتحديد طبيعة لجان التحقيق التي قد تعمل كأجهزة رقابة على الحكومة وفق الدستور. كان يُفترض أن يضع البرلمان مسودة القانون الذي ينظّم عمل اللجان، لكن الأمانة العامة لمجلس المستشارين- التي ترفع تقاريرها إلى الملك- فرضت سيطرتها في نهاية المطاف ووضعت هي المسودة، الأمر الذي أثبط كتلة الحزب في البرلمان، وسلّط الضوء على جهود القصر لتقليص تأثير الإصلاحات الدستورية وتحصين احتكاره للسلطة.

قبل هذا التطور، في سبتمبر 2012، سَطَر عبد العلي حامي الدين، وهو عضو شاب مُفوّه وبارز في حزب العدالة والتنمية، مقالاً شدّد فيه على أهمية الدستور الجديد وحكم القانون، وانتقد أمراً ملكياً دعا إلى التحقيق حول إجراء تأديبي اتُّخذ ضد مسؤولين في الجمارك اتُّهِموا بسوء الإدارة. جادل حامي الدين أن هذا الأمر غير دستوري لأنه يخطف الصلاحيات الإدارية من الحكومة ورئيسها. هذه الدفوع الجريئة أصابت بسهامها لب النقاش حول الدور السياسي للقصر وموقعه في النظام السياسي الجديد. كما أنها تقاطعت مع استراتيجية حزب العدالة والتنمية الجديدة الخاصة بتوضيح أهمية هذه النقاشات للرأي العام. وهذا استهدف جزئياً تحصين الحزب من الانتقادات المحتملة، على أساس أنه ليس مسؤولاً بالكامل عن أي تقصير، بفعل القيود المفروضة على حرية حركته. بيد أنه نَشَطَ في الوقت نفسه لتبسيط قواعد الانخراط في السياسات المغربية وتحديد الخطوط الحمر التي يخطّها القصر.

في تلك الفترة، استجاب الإعلام للاهتمام الشعبي المتزايد بالسياسات المحلية، وكذلك للسياقات الجديدة المُتمثلة بالإطار الدستوري الجديد وبوجود حزب إسلامي، لأول مرة، في سدة الحكم، بأن غطّى على نحو كثيف التطورات السياسية، بما في ذلك دقائق مفاوضات تشكيل الحكومة. لا بل هو كشف للعامة أيضاً معنى مايجري خلف الكواليس. وقد اغتنم بنكيران فرصة ارتفاع وتائر الفضول الشعبي الذي أثاره الإعلام كي يوضح أسباب التوترات بينه وبين القصر، ولجذب مزيد من الاهتمام إلى مسألة دور هذا الأخير. صحيح أن مثل هذا الدور كان مفهوماً دوما، إلا أن الأضواء لم تكن تُسلَّط عليه سابقاً بهذه الطريقة.

كما كان أمراً مستجداً كذلك نزوع بنكيران في وقت مبكر إلى الحديث علناً عن التوتر مع القصر. ومقاربته هذه، التي بدت خطرة لأنها قد تثير حفيظة القصر وحنقه، كانت مثار فخر لبنكيران نفسه. لقد صرّح مراراً وتكراراً أنه سيكون صريحاً على الدوام مع الشعب، بما في ذلك الإفصاح عن التحديات التي يواجهها. لكنه كلما وجّه انتقادات إلى القصر، كان يُشدّد غالباً على ولائه للملك ويؤكّد أنه يعمل وفق إرادته. لا بل هو اتّهم في بعض الأحيان الصحافة وبعض السياسيين بمحاولة تعكير صفو العلاقات بينه وبين القصر. في مثل هذا الخضم، كان أعضاء آخرون في حزب العدالة والتنمية يعترفون بأن تطوير ثقافة سياسية جديدة يتطلّب علاقة أقوى مع الملكية وأيضاً مع المعارضة.

تعيّن على حزب العدالة والتنمية كذلك، إذا ما أراد أن يحافظ على التوازن الدقيق مع القصر، أن يعالج التوترات الحادة مع أحزاب سياسية بارزة على غرار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب الأصالة والمعاصرة، وشريكه في الائتلاف حزب الاستقلال. كان بنكيران عنيفاً وقاسياً في ردوده على حملات المعارضة، خاصة منها حزب الأصالة والمعاصرة. فخُطبه وجلسات المساءلة في البرلمان كانت لاسعة وساخرة ولمّا توفّر أحدا. وقد أعرب رئيس الوزراء عن أسفه لممارسة أساليب العرقلة التي تمنع حكومته من تطوير إطار تشريعي للإصلاحات الدستورية، ومن المضي قدماً لتطبيق أجندة طموحة. وأنحى بنكيران باللائمة أساساً على الأمين العام لحزب الاستقلال، حميد شباط، الذي تحوّل إلى ناقد لاذع لبنكيران وللإسلاميين، مادفع البعض إلى نعته بأنه “المعارضة الحقيقية”. وفي أوائل 2013، تنامت شأفة العداوة بين بنكيران وشباط واتخذت منحى شخصيا. على الصعيد الرسمي، كان الناطق باسم حزب الاستقلال، عادل بن حمزة، يعلن أن حزبه أصيب بخيبة أمل من تعصُّب بنكيران الحزبي، ويشدّد على وجه الخصوص على الخلافات مع حزب العدالة والتنمية حول خطط الإصلاحات المتعلقة بالدعم، التي اعتقد الاستقلال أن وطأتها ستكون ثقيلة على الفقراء.ومن جانبه، زعم شباط أن حزب العدالة والتنمية كان يهمّش حزب الاستقلال، وأن برنامج الحكومة لم يعد يُمثِّل الرؤية المُتفق عليها.

ثمة حدثان وقعا في 2013 غيّرا السياقات السياسية في المغرب: الأول، هو انقلاب يوليوز الذي أطاح بالرئيس المصري محمد مرسي، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، والثاني قرار حزب النهضة الإسلامي التونسي بالانسحاب من الحكومة لتسهيل الحوار والمصالحة الوطنية. كلا التطورين وفّرا فرصة لخصوم حزب العدالة والتنمية، الذين افترضوا أن تحوّل المد ضد الإسلاميين في بلدان أخرى، سيؤدي إلى تحوّل في المُدركات الشعبية المغربية لغير صالح حزب العدالة والتنمية. وجنباً إلى جنب مع القصر، تراءت لشباط وقوى سياسية أخرى فرصة لإضعاف حزب العدالة والتنمية، أو حتى دحرجة رأسه من الحكومة. آنذاك، سرت شائعات بأن حلفاء المغرب من المانحين الخليجيين، خاصةً الإمارات العربية المتحدة، شعروا بامتعاض لرؤية الحزب الإسلامي في السلطة، وربما ألمحوا إلى أنه يجب وضعه قيد السيطرة. وعلى رغم أن حزب العدالة والتنمية تأسّس وفق أجندة إسلامية معتدلة تركّز على المشاركة في العملية السياسية وتنبذ العنف، إلا أن طابعه الإسلامي بدا ملائماً للغاية لتحويله إلى هدف مُستساغ.

كان شباط، عدا عن معارضته الشخصية لحزب العدالة والتنمية، أداة يمكن للقصر استخدامها لضعضعة الحكومة بقيادة هذا الحزب الأخير. وقد وجّه وزراء حزب الاستقلال ضربة عنيفة لحزب العدالة والتنمية، حين أعلنوا في ماي 2013 أنهم سيستقيلون من الحكومة. ثم انسحب الحزب رسمياً من الائتلاف في 8 يوليوز 2013، ما أسفر عن وقف تنفيذ برنامج حزب العدالة والتنمية. وفي خضم جهوده لتقليص أضرار هذه الخطوة عليه وعلى حزبه، ضرب بنكيران على وتر ثقته بحماية القصر. كان في وسع القصر آنذاك، إذا ما أراد، إطاحة حزب العدالة والتنمية من الحكم. إذ مع وقوع الإسلاميين تحت وطأة الضغط في منطقة الشرق الأوسط برمتها وفقدان الدعم السياسي لحزب العدالة والتنمية في صفوف الأحزاب الأخرى، كانت هذه هي اللحظة المناسبة للقيام بذلك. بيد أن بنكيران كان لايزال سياسياً براغماتياً يشدّد على انصياعه إلى القصر، وحزبه مافتىء يتمتع بشعبية، وفي تلك اللحظة كان هذا الحزب يُعتبر ضحية مناورات المعارضة، ماجعله يحصد مزيداً من التعاطف. لكل ذلك، تردّد القصر، والأرجح أنه حَسبَ أن وجود حزب العدالة والتنمية كقوة ضعيفة في الحكومة، أفضل من وجوده كمعارضة متمكّنة ومغبونة، ومن احتمال حدوث تمزّق سياسي وغضب شعبي قد يؤدي إليهما انهيار الحكومة. وفي خاتمة المطاف، سهّل القصر جهود بنكيران لتشكيل ائتلاف جديد. ومع ذلك، أظهرت هذه الواقعة أن قبضة حزب العدالة والتنمية على السلطة كانت هشّة وفي حاجة ماسّة إلى دعم القصر. لكن، وإلى درجة ما، بيّنت هذه الواقعة كذلك أن استراتيجية التوازن الحاذقة التي يمارسها حزب العدالة والتنمية في العلاقة مع كلِ من القصر وقواعده الانتخابية تمنحه مرونة وسهولة في التكيّف.

تعرّض بنكيران في هذه التجربة إلى الإهانة والتشجيع في آن: فهو أُهين في طريقة مقاربته للقصر، وتشجّع في تعاطيه مع المعارضة. وتبعاً لذلك، أعلى أعضاء الحزب من شأن الحاجة إلى تحسين علاقاتهم مع القصر. وعلى سبيل المثال، تحدث أحد أعضاء الحزب عن “ضمان مرحلة انتقالية ديمقراطية، والتأكد من أن الإصلاحات البنيوية الكبرى التي تُدخَل يمكن أن تحدث فقط بالتعاون مع القصر”. أما في مجال العلاقة مع المعارضة فقد بقي بنكيران على شراسته وعزّز سمعته كرافض للأمر الواقع. وهو شدّد في إحدى جلسات المساءلة البرلمانية، التي غالباً ما تكون مسلّية، على القول: “ليس لدينا أزمة حكومة الآن، بل لدينا أزمة معارضة”.

وضع انسحاب حزب الاستقلال والعملية المديدة لتشكيل ائتلاف جديد، حزب العدالة والتنمية أمام الاختبار، لكن بنكيران وحزبه استعادا نشاطهما بسرعة وبرز الأول كسياسي ماهر على المسرح الوطني. لا بل حصد أداؤه الشرس كرئيس للوزراء مودة دوائر سياسية مختلفة بادرت على جناح السرعة إلى دعم مقاربته. بالطبع، كان لايزال ينتصب في وجه بنكيران العديد من النقاد والذمامين، لكنه تمكّن في خريف 2013 من إنقاذ ائتلافه الأول من الانهيار، كما أن موقعه كرئيس للوزراء، على الأقل في العلاقة مع القصر، كان يتحسّن وبدت حكومته مستعدة للمضي قدماً في تنفيذ البرامج التي توقّفت أو تلك التي كانت تنتظر بدء تنفيذها.

تحقيق الوعود (2013-2016)

مع خروج حزب الاستقلال، انضم حزب التجمع الوطني للأحرار إلى الائتلاف الحكومي، ما سمح ببدء تطبيق البرامج على نحو جدّي. وفي هذه المرحلة الثانية من تجربة حزب العدالة والتنمية، واصل الحزب الاصطدام بضغوط المعارضة والقصر، لكنه كان قادراً على التركيز أكثر على الحكم وتحقيق وعوده الانتخابية.

كان الحزب وعد في حملته الانتخابية العام 2011 بإدخال إصلاحات وحلول طموحة لمعالجة المشاكل العامة التي تواجه الإدارة الرسمية المغربية. وقد شدّد الحزب على خفض وتيرة البطالة ومعدلات الفقر وإنعاش مؤشرات الاقتصاد الكلي، و”استعادة ثقة المواطنين في إدارتهم، وتحسين توفير الخدمات”.

ويساعد قياس ما أنجزه الحزب، ومالم ينجزه، على تسليط الضوء على مدى قدرته على إقناع الناخبين بأن في مستطاعه توسيع أدوار الحكومة والبرلمان، على رغم القبضة الحادة للقصر. كما أن تمحيص مصير الجهود الإصلاحية لحزب العدالة والتنمية، يظهر كذلك مدى استمرار تجذُّر الملكية في البيروقراطية وكيف كان الحزب عاجزاً أحياناً، أو غير مستعد، لممارسة إرادة سياسية كافية لجعل الإصلاحات تُبصر النور. وهنا، ثمة مجالات ثلاثة محددة تُظهر السجل المتباين للحزب: مكافحة الفساد، واستقلال القضاء، والإصلاحات الهيكلية الاقتصادية.

مكافحة الفساد: تتمثّل أبرز الوعود الانتخابية الطنّانة لحزب العدالة والتنمية في شعار مكافحة الفساد. وكما هو معروف، كان استغلال العمل السياسي والسلطة للتربّح المالي، والفجوة بين نخبة غنيّة وبقية البلاد، في جذر دوافع احتجاجات 2011. فبعض أقوى شعارات المتظاهرين كانت موجّهة ضد أولئك الذين يستخدمون تقاربهم مع القصر لمراكمة الثروات، وكذلك ضد سيطرة القصر، المعروفة تماماً، على قطاعات مهمة من الاقتصاد. وفي ما عدا تحسُّن طفيف برز في العام 2014، بقي تصنيف المغرب في مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، خفيضاً باستمرار منذ العام 2012. وفي 2016، احتّل المغرب المرتبة 90 من أصل 176 دولة في مدركات الفساد. وحتى من دون التذكير بهذه التصنيفات الدولية، يدرك المواطنون في المغرب على نحو تام مدى تفشي الفساد وقيمة أكلافه.

ولاعجب بعد ذلك أن تُشعل وعود حزب العدالة والتنمية بمكافحة الفساد، حماسة الناخبين وترفع من وتيرة توقعاتهم حول التغيير، خاصة حين نضع في الاعتبار سمعة هذا الحزب في مجال الشفافية والانضباط الداخلي. بيد أن آمال هؤلاء سرعان ما تبددت هباء منثورا، بعدما تخلى الحزب عن حملته لمكافحة الفساد. وقد أصبحت هذه المسألة، سواء بسبب فقدان الإرادة السياسية أو بفعل قوة المصالح المتجذّرة، من أضخم إخفاقات الحزب في نظر المواطنين.

تطرّق وزير العدل مصطفى الرميد، خلال نقاش متلفز في نهاية العام 2014، إلى خطط الحكومة لمكافحة الفساد، فسلّط الضوء على 15 مشروعاً للدلالة على جهودها حتى تلك الفترة، وكذلك على القوانين لتحسين الرقابة والكشوفات المالية والتدابير الإدارية، والتحقيقات، وممارسات الادعاء العام. أما الجهود الأخرى المبكّرة فقد كانت إجراءات شكلية إلى حد كبير، على غرار الحملات لرفع التوعية التي شملت توزيع كتب للأطفال في المدارس حول مكافحة الفساد، وتخصيص رقم هاتف مجاني للإبلاغ عن سوء استعمال السلطة.

وعلى المستوى المؤسسي، أعلنت الحكومة في العام 2014، وفق ما يقتضيه دستور 2011 الجديد، عن خطط لإصلاح “الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة”، وإعادة تسميتها “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”. وقد منحت الحكومة هذه الهيئة صلاحيات جديدة عزّزت من استقلاليتها- مثلاً عبر استثنائها من رقابة الحكومة- وأعطتها دوراً أكثر فاعلية في التحقيق حول الفساد قبل بدء العملية القضائية. تتكوّن هذه الهيئة من 12 عضواً عدا الرئيس، يُعيّن أربعة منهم بمرسوم ملكي، واثنان من قبل رئيس البرلمان، واثنان من رئيس مجلس المستشارين، وأربعة بمرسوم من رئيس الوزراء. بيد أن نشطاء المجتمع المدني انتقدوا هذه الهيئة لقصورها في استخدام مايسمح به الدستور من صلاحيات، وهم شكّكوا على وجه الخصوص حول ما إذا كانت الهيئة ستحصل على التمكين اللازم للبدء بالتحقيقات وتحديد موقفها من التشريعات المعنية. كما أنهم أعربوا عن أسفهم لغياب تمثيل المجتمع المدني في الهيئة الجديدة، على عكس الهيئة السابقة التي كان ثلثها يتكوّن من ممثلي المجتمع المدني.

قبيل إقراره، أثار القانون لإنشاء “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” انقسامات في البرلمان- حتى بين الأغلبية وبين الحكومة- فقد أرادت بعض القوى أن تمنح الهيئة سلطة المرجعية الذاتية كي تستطيع ضمان إخفاء أسماء المُشتكين، وتأسيس فروع لها في أنحاء البلاد. لكن بعد إقراره، لم يمنح القانون المُشتكين حق إخفاء أسمائهم ولا سمح للهيئة بتأسيس فروع أو إجراء تحقيقات بشكل مستقل. وتبعاً لذلك، حمل نشطاء المجتمع المدني على هذه الهيئة بكونها “مجرد جهاز للدراسات المُستفيضة وتلعب مجرد دور استشاري”، وألمعوا إلى أن أعضاءها سيُعيَّنون كلهم من قبل الحكومة أو القصر، وأنها أقل استقلالية حتى، مالياً وفي العديد من المجالات الأخرى، من الهيئة التي حلّت مكانها. وقد اعتُبر كل ذلك بمثابة تباطؤ من جانب الحكومة، فيما تمضي إجراءات مكافحة الفساد قدما.القانون أُقِرَّ في حزيران/يونيو 2015، لكن حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2017 لم يكن قد تمّ تعيين رئيس وأعضاء الهيئة.

في ماي2016، أطلقت الحكومة أيضاً الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. تضمّنت هذه الخطة الشاملة 239 مشروعاً مُفصّلاً داخل عشر فئات مختلفة يتعيّن إنجازها جميعها بحلول العام 2025. كلٌ واحدة من من هذه الفئات ستُشرف على تنسيقها وزارة محددة، وإحداها ستكون تحت رقابة الاتحاد العام لمقاولات المغرب، أكبر ممثل للقطاع الخاص في البلاد. بيد أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ابتُليت بدورها بداء التأخير، ولم تُشكَّل اللجنة المُخوّلة بوضعها موضع التطبيق، وهي اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، حتى يونيو 2017، بعد وصول العثماني إلى الحكم. ووفقاً للمرسوم الحكومي، يجب أن يكون أعضاء اللجنة الوطنية وزراء، وأن تبلغ ميزانيتها 1.8 مليار درهم (نحو 190 مليون دولار)، على أن تجتمع الأمانة العامة الدائمة للّجنة أربع مرات في السنة لتقييم عملية تنفيذ الاستراتيجية. وقد وافقت الحكومة، بعد رسالة انتقادية من منظمة ترانسبيرنسي المغرب، وهي الفرع المحلي لمنظمة الشفافية الدولية، على تخصيص مقعدَين في اللجنة لمنظمات غير حكومية. وأصبح المرسوم الحكومي قانوناً في أكتوبر 2017.

خططت الحكومة، أو وضعت مسودات، أو أقرّت، عدداً من القوانين لتحسين الرقابة والكشوفات المالية، وترقية المداخل إلى المعلومات، وضمان الحماية للمبُلِغين عن التجاوزات. لكن الانطباع- والحقيقة- بأن هذه القوانين لم تُحدث أي تغيير ملموس في حياة المواطنين، بقيا سائدين. وحتى حين كانت حكومته تحضّر الاستراتيجية الشاملة لمكافحة الفساد، اعترف بنكيران بلاجدوى هذه المكافحة، وأطلق في 13 يناير 2015 مقولته المشهورة خلال مناقشات برلمانية: “الفساد يحاربني ولست أنا من يحاربه”، وهذه كانت إشارة إلى المصالح المُتجذرة التي تُعيق سياسات الحكومة. وهكذا، وعدا مظاهر الجهود التي يقال إنها تُبذل، لم توفّر محاولات الحكومة سوى النذر اليسير من الشفافية. وفي محاولة ملحوظة في العام 2012، نشرت وزارة النقل لائحة بالمستفيدين من اتفاقات النقل، تُشبه، وتتضمّن، رخص التكسيات. وعلى رغم أنه لم يتّضح كيف مُنحت هذه الرخص أو جرى الحصول عليها، إلا أن القائمة شملت شخصيات سياسية وثقافية معروفة، ويُفترَض أن بعض هذه الشخصيات حصلت على الرخص كعطايا. وقد أشعلت هذه الخطوة نقاشات عارمة، وكانت أكلافها السياسية مُنخفضة نسبياً بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، حيث أنها أظهرت للرأي العام أن الحكومة تمتلك القدرة لتكون أكثر شفافية. بيد أن الحملة ككل لم تكن من ذلك النوع الذي يمكن للحزب أن يربحه ضد القصر والمصالح الاقتصادية المتُجذّرة وقوى المؤسسة السياسية. ثم أن نوع التغيير الكاسح الذي وعد به الحزب كجزء من برنامجه الانتخابي، لم يرَ النور.

الإصلاحات القضائية: كان النظام القضائي في المغرب منذ أمد بعيد على صلة بالفساد وعدم الفعالية، ماجعل المواطنين في حالة من الإحباط وفقدان الثقة.وقد أشار استقصاء لمنطمة الشفافية الدولية العام 2016 شمل تسع دول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى أن 49 في المئة من المغاربة قالوا إنهم دفعوا رشى في المحاكم، ولم يبُز المغرب في ذلك سوى مصر واليمن. كانت ثمة دعوات، على مدى سنوات طوال، إلى إجراء إصلاحات في القضاء. لابل انطلقت مثل هذه الدعوات حتى من داخل الجسم القضائي نفسه، كما أن حكومة بنكيران اعتبرت ذلك أولوية. لكن هنا أيضاً عاين حزب العدالة والتنمية فرصاً وقيوداً في آن. فالدستور الجديد خوّل إدخال تغييرات يمكن أن تعطي القضاء استقلالية أكبر وتجعله أكثر فعالية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على سيطرة الملك عليه. بيد أنه تبيّن أنه من الصعب اغتنام هذه الفرصة. وفي نهاية المطاف، لم تحرز عملية الإصلاح المتوقفة سوى حفنة ضئيلة من التغييرات الملموسة.

انطوت إصلاحات 2011 الدستورية على استبدال مجلس القضاء الأعلى بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وعلى محض هذا الأخير صلاحيات متوسّعة واستقلالية مالية أكبر. لايزال رئيس هذا المجلس، الذي تشكّل في أبريل 2017 بعد عملية مديدة، هو الملك، لكن نائب الرئيس هو رئيس محكمة النقض وليس وزير العدل، أي إن نائب الرئيس هو مسؤول قضائي مُحترف وليس شخصية سياسية معيّنة. هذا المجلس، الذي كان سابقاً يُبدي النصح إلى وزارة العدل حول أداء القضاة وسلوكهم، لايزال غير مستقل تماما، لكن نسبة القضاة الذين يسميهم قضاة آخرون للتعيين باتت أعلى بالمقارنة مع أولئك الذين تعيّنهم السلطة التنفيذية.

لكن الأهم من كل ذلك أن الدستور نصّ على تشكيل محكمة دستورية. في السابق، كان المجلس الدستوري يراجع مسودة القوانين والتنظيمات قبل أن يتم إقرارها، لتحديد مدى دستوريتها والمصادقة على نتائج الانتخابات والاستفتاءات. لكن الآن، تحوز المحكمة الدستورية، التي جرى تشكيلها في أبريل 2017 ويعيّن الملك نصف أعضائها الـ12، على صلاحية اتخاذ القرار حول مدى دستورية القوانين حتى بعد إشهارها. وفي حين أن هذه التغييرات وغيرها، بما في ذلك إيجاد شرعة جديدة للقضاة، منصوص عليها في أحكام الدستور، إلا أنه يتعيّن على الحكومة والبرلمان أن يُقرّا قوانين معيّنة، تُعرَف بالقوانين العضوية، لتحديد التفاصيل.

يتمتّع وزير العدل مصطفى الرميد، وهو محامٍ ورئيس سابق لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان، بسمعة طيّبة في مجالات النزاهة والتقوى والعدالة. وكان جزء من مهمته توفير استقلالية قضائية أكبر، وفق ما نص عليه الدستور. وفي ماي2012، أطلق الملك في القصر الملكي اللجنة العليا للحوار حول إصلاح منظومة العدالة، والتي تتكوّن من 40 عضوا، لتحديد نطاق إصلاحات الوزارة. وقد أبرزت الرمزية الكامنة في قيام الملك بهذه الخطوة في القصر، مدى الصعوبات التي تواجهها الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية في مجال إمكانية امتلاك عملية الإصلاح القضائي. وكما أشارت التقارير الإخبارية في ذلك الوقت، فقد دعا الملك إلى الإصلاحات القضائية في العام 2009، أي قبيل إعلان الدستور الجديد ودعوة حزب العدالة والتنمية إلى قيادة الحكومة.

بعد نحو السنة من المشاورات، كشف الرميد في شتنبر 2013 عن ميثاق للإصلاح القضائي، تضمّن 353 مسودة توصيات مفصّلة، مثل إقرار قوانين مُحددة أو تصحيح الميزانيات.على سبيل المثال، حدّد الميثاق ميزانية سنوية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وخصّص له مقراً ليعقد فيه اجتماعاته. في السابق، لم يكن لهذا المجلس لا ميزانية ولا مقر. وقد أثنت اللجنة الدولية للحقوقيين على الجهود لمنح المجلس الأعلى للسلطة القضائية الاستقلالية الإدارية والمالية والمؤسسية، ووصفت عملية اختيار الأعضاء بأنها “عادلة، وشفافة، ومتّسقة مع بنود القانون”.

شدّد الرميد في نونبر 2016 على أن 78 في المئة من الأهداف المحددة في الميثاق تحققت. وعشية الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2016، أطلق فريق التواصل والاتصالات في حزب العدالة والتنمية حملة عبر الفيديو أوضحت ما أنجزته الحكومة على مدار نحو خمس سنوات من وجودها في الحكم. وقد لخّص الرميد ماهية الأهداف القضائية الأساسية، خاصة تلك التي تؤثّر مباشرة على حياة الناس، وأوضح أنه تم رفع مرتبات القضاة لتحسين دخلهم كي يكونوا أقل عرضة إلى الرشوة، وأن القضاة الذين يفشلون في جلاء أسباب الزيادة المفاجئة والكبيرة في ثروتهم سيواجهون إجراءات تأديبية. كما شدّد الرميد على أنه جرى تحديث قاعات المحاكم، وتراجع عدد المحاكمات قيد الانتظار، ولم تقع حوادث إخفاء قسري منذ يناير 2012. وأضاف أن استخدام التعذيب تراجع بدوره، وتم التحقيق بكل ادعاءات التعذيب بهدف تطبيق مبدأ المساءلة. وبالمثل، بدأت وزارة العدل باستعراض كل القضايا المتعلقة بادعاءات الفساد، وأحالت عدداً كبيراً نسبياً من هذه القضايا إلى المحاكم.

بيد أن هذه النزعة التفاؤلية للوزير لم تحظَ بموافقة الجميع. فرابطة الصحافيين القضائيين، وهي هيئة محلية مغربية، أبرزت العديد من أوجه القصور في هذا المشروع الإصلاحي، بما في ذلك التأخّر في إقرار قوانين الإصلاح التي لم يضمن العديد منها على أي حال استقلالية أكبر للقضاء ولم تكن تُطبّق دوما. على سبيل المثال، كان يُفترض أن يُقَر القانون لإقامة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في العام 2014، لكن البرلمان لم يسنّه حتى العام 2016، ولم يبدأ المجلس العمل إلا بعد أن عيّن الملك أعضاءه في أبريل 2017. وبدءاً من 7 أكتوبر 2017، كان يُفترض أن يُمارس المجلس الرقابة على مكتب المدّعي العام الذي كان يخضع سابقاً للإشراف من وزارة العدل، في خطوة هدفت إلى الحد من ممارسة النفوذ السياسي في مجال الادعاء العام. وجادلت الرابطة أيضاً بأن زيادة رواتب القضاة ليست هي الطريقة المضمونة لمنع الرشى، إذ لاتزال هناك شفافية ومساءلة أقل في داخل النظام، على سبيل المثال في مجال الإجراءات التأديبية للقضاة. وكررت اللجنة الدولية للحقوقيين هذه المشاغل، مُشيرة إلى أن” النظام التأديبي ليس مُتطابقاً تماماً مع المعايير الدولية، خاصة لأنه ينطوي على مخالفات تأديبية تقوّض حق القضاة في مجالات حرية التعبير، وتأسيس الروابط والجمعيات”. وفي ما يتعلّق بالمحكمة الدستورية، لاحظت اللجنة أن عملية اختيار الأعضاء فيها، التي تتم عبر البرلمان، “أبعد ما تكون عن المثالية أو عن مبدأ الجدارة”، لافتةً إلى أنها لاتزال مدفوعة بالمصالح السياسية، وأنها “فرصة ضائعة للقطع مع الممارسات السابقة، لضمان استناد انتخاب أعضاء المحكمة إلى الشفافية، والجدارة، وتمثيل الجندر”.

وهكذا، وفي حين أن الإصلاحات على الورق سعت إلى منح الجسم القضائي استقلالية أكبر، إلا أن هذا الأخير بقي في الممارسة العملية مُرتبطاً بالمصالح السياسية المُتجذرة، سواء أكانت مجموعات مُحددة تعارض التنظيمات الجديدة، أو قوى أخرى، خاصة من بينها القصر، ترفض التخلي عن سيطرتها على القضاء. والواقع أن القضية الخطيرة المُتعلقة بالفساد القضائي لاتزال متفشية كما كانت دوما. وعلى رغم أن اللجنة الدولية للحقوقيين أشادت بوجود “تدابير وقائية كافية في النظام الحالي” لترقية المحاسبة ومكافحة الفساد، إلا أن الإرادة السياسية لتنفيذ هذه التدابير ولمكافحة الفساد على نحو صحيح لاتزال غائبة.

على رغم أن المراقبين الدوليين اعتبروا العديد من جهود الإصلاح هذه إيجابية، ليس من الواضح في المقابل ما إذا كانت ستُحسّن على نحو ملموس النظام القضائي. ففي العديد من الحالات، كان ثمة قصور في تطبيق الإصلاحات. كما أنه ليس واضحاً كذلك ما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيفيد سياسياً من التأثيرات بعيدة المدى لهذه الإصلاحات. ذلك أن ملاحظات بنكيران حول حواجز الفساد والمصالح المُتجذرة، تنطبق أيضاً على الإصلاحات القضائية التي تدبّر حزب العدالة والتنمية أمر ادّعاء امتلاك الفضل في إقرارها، حتى ولو لم ترقَ المحصّلة في الواقع إلى أي نتائج يُعتدّ بها.

الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية: كانت من بين الأولويات التي تعهّد حزب العدالة والتنمية بوضعها موضع التطبيق، مسألتا المالية العامة والموازنة المُتضخّمة، اللتان كانت البلاد تتعرض فيهما إلى ضغوطات من جانب الدائنين الدوليين (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) من أجل معالجتهما.

فوفقاً لأرقام البنك الدولي، وصلت كلفة الدعم إلى 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد العام 2012، وهي ساهمت في رفع الدين العام بنسبة 12 نقطة مئوية في الفترة بين 2008 و2012 حين وصل إلى 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن مضاعفات مابعد احتجاجات 2011 عقّدت الخطط الخاصة بإصلاح الدعم التي كان لها في الغالب تبعات سلبية، وهدّدت بتقويض الدعم الشعبي وإثارة اضطرابات اجتماعية. بيد أن حزب العدالة والتنمية خفّف من وطأة هذه المخاطر حين انتهج مقاربة تدرُّجية واستهدف أولاً إصلاح دعم الطاقة التي شكّلت جل برنامج الإنفاق على الدعم المعروف باسم صندوق المقاصة المغربي (صندوق الدعم الاجتماعي). ومثل هذه المقاربة، جنباً إلى جنب مع استراتيجية إعلامية برنامجية فعّالة ومع قليل من الحظ (على غرار الهبوط في أسعار النفط العالمية)، ضمنت نجاحاً نالت عليه الحكومة ثناءً دوليا.

في وقت مبكّر (يونيو 2012)، بدأت الحكومة بزيادة أسعار الوقود تدريجاً. وفي العام 2013، رفعت سعر البنزين والديزل بنسب مختلفة، مُعتمدة على “آلية فهرسة اقتصادية جزئية”. وفي كانون الثاني/يناير 2014، تم رفع الدعم عن البنزين والوقود الصناعي، وفي أوائل 2015 ألغي الدعم عن كل ماتبقى من أنواع الوقود. وقد ساهمت الحكومة في التخفيف من عبء الزيادة في أكلاف الوقود من خلال الدعم النقدي للنقل في المدن، خاصة سيارات الأجرة.

عمل بنكيران وحزب العدالة والتنمية بلا كلل لتحضير المواطنين لهذه الإجراءات الصعبة لكن الضرورية. وأوضحت الحكومة – بما في ذلك بنكيران ووزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد ووزير الشؤون العامة والحكامة محمد الوفا ومديرة صندوق المقاصة المغربي سليمة بناني – تفاصيل عملية الإصلاح بدقة. وشدّد الوزراء على أن هذه الجهود ضرورية من الناحية الاقتصادية، وأن دعم الوقود المستهدف أساساً بالإصلاح يفيد الشركات (15 في المئة فقط من إجراءات الدعم تلك كانت تساعد المواطنين).

نال حزب العدالة والتنمية فضل تدشين عملية الإصلاح من دون أن يتسبّب ذلك باضطرابات أو إعاقات كبرى، بيد أن الأجزاء الأكثر حساسية سياسياً في إطار الإصلاحات (أي رفع الدعم عن وقود الطبخ والدقيق والسكر) لمّا تُنفَّذ بعد. كان يُفترَض أن يبدأ قطع الدعم عن غاز البوتان في العام 2016، بيد أن الحكومة أرجأت ذلك حتى العام 2017 لتجنُّب اندلاع ردود فعل سلبية قبيل الانتخابات البرلمانية، وهذه الخطوة لاتزال تؤجَّل منذ ذلك الحين المرة تلو المرة. على رغم ذلك، ووفقاً لتقارير صحافية، تقلّص الإنفاق في ظل صندوق المقاصة من 40 مليار درهم (4.2 مليارات دولار) في 2013 إلى 25 مليار درهم (2.6 مليار دولار) في 2014، وذُكر أنه قد ينخفض أكثر ليصل إلى 10 مليارات ردهم (1.1 مليار دولار) في 2015.

كان يسود في أوساط مسؤولي الحزب شعور بالاعتزاز لامراء فيه، لأنهم واجهوا حتى ولو شطر من إصلاحات الدعم، وحسّنوا مؤشرات الاقتصاد الكلي، على الأقل في المرحلة الراهنة. ووفقاً لوزارة الاتصالات، قلّصت الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية عجز الموازنة من 7.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2012 إلى 3.5 في المئة في 2016. علاوة على ذلك، ساعدت إصلاحات الحكومة على تحقيق نمو قدره 3.7 في المئة في الفترة بين 2012 و2015. وتوقّع صندوق النقد الدولي، مع استمرار تقدم الإصلاحات قدما، نمواً أعلى يصل إلى 4.5 في المئة في 2017، وعجزاً أقل في الميزانية يبلغ 3،5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2017. بالإجمال، أثنى صندوق النقد الدولي على هذه الإصلاحات الهيكلية. وفي يوليوز 2016، وافق الصندوق على منح المغرب 3.47 مليارات دولار في إطار خط الوقاية والسيولة، غداة الاتفاقيتين اللتين وُقعتا سابقاً لمدة عامَين. وقد أشار الصندوق إلى مسألتَي الدعم والإصلاح المصرفي في معرض تبرير قراره، كما ضمّن تبريره أيضاً خطوة توسيع برامج دعم القطاعات المُفقَرة في المجتمع.

جاءت الجهود الأخرى لخلق الاستقرار في مؤشرات الاقتصاد الكلي في أواخر فترة الحكم الأولى لحزب العدالة والتنمية. ففي أعقاب مفاوضات شاقة مع الاتحادات والنقابات، وعلى رغم معارضة هذه الهيئات، أقرّ البرلمان قانون إصلاح رواتب التقاعد في صيف 2016. وقد نص القانون الذي ركّز على تحسين المالية العامة، على زيادة سن التقاعد من الستين إلى الثالثة والستين (على أن يُرفع المعدل تباعا) وزيادة مساهمة العامل ورب العمل في الصندوق. لكن، لاتزال ثمة إصلاحات هيكلية مهمة من دون تنفيذ. إذ لطالما دعا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى تحرير العملة، لكن، ولأن هذا قد يؤدي إلى خفض قيمة الدرهم وربما مفاقمة التضخم، فقد أبدت الحكومة الخشية من ضرب الاستقرار. وهكذا، وُضع الإصلاح مجدداً على الرف.

يُحتمل أن يكون القصر راضياً عن وجود حزب سياسي يمتلك عملية الإصلاح الهيكلية بكل تفاصيلها، خاصة حين نضع في الاعتبار احتمال نشوب الاضطرابات. وهذا يتوافق مع مقاربته التي تقوم على النأي بالنفس علناً عن عملية الحوكمة، فيما هو يُواصل مراقبة كيفية تطوّر الأمور. وعلى رغم أن الإصلاحات المؤلمة هي على الطريق، إلا أن قادة حزب العدالة والتنمية قلّلوا من شأن المخاطر. كما أن الحزب يعتبر أن قدرته على إدارة مثل هذه الإصلاحات الاقتصادية الحسّاسة دليلٌ على جدارته بالحكم. وقد أُشيد ببنكيران على وجه الخصوص لأنه نفّذ بفعالية برنامجاً اجتماعياً خطرا. وهذا أدى في آن إلى تعزيز أوراق اعتماد حزب العدالة والتنمية في الحكم وإلى إثبات فائدته للقصر.

سلّط الحزب خلال حملة إعادة الانتخاب الضوء على هذه النجاحات في عملية الإصلاح، وأيضاً على توسيع التغطية الصحية للفقراء واستحداث صندوق لدعم الأرامل والأمهات العازبات. لقد اعتبر حزب العدالة التنمية تجربته في الحكم ناجحة، وهذا الإحساس يُصبح جلياً على وجه الخصوص حين يُقارَن بالانطباع حول الحكومة التالية الأضعف التي قادها حزب العدالة والتنمية، والتي وُصفت بأنها حكومة مُجهَدة. وعلى رغم أن أداء الحزب كان متبايناً، والأهم أنه لم يؤدِّ إلى تحسين حياة الناس على نحو يُعتدّ به، إلا أن رسوخ إيمان قادة الحزب بفعالية أدائهم في الحكومة- وإلى حد ما تفاجؤهم بما اعتبروه إنجازات هائلة- كان هو جوهر رسالتهم في حملة إعادة انتخاب الحزب.

ضمان النصر الانتخابي (2015-2016)

قبيل الدورتين الانتخابيتين، ركّز الحزب إلى حد كبير على ضمان أن تُترجَم إنجازاته إلى نصر انتخابي. وهو أراد ان يُثبت أن أداء الحزب السياسي (بكلمات أخرى سجلّه الملموس في الحوكمة) يمكن أن يكون عاملاً حاسماً في مدى نجاحه وشعبيته. والحال أن الحزب أراد أن يقارن نفسه بالآخرين الذين نمت شعبيتهم فقط بسبب روابطهم مع القصر (خاصة حزب الأصالة والمعاصرة وقبله الأحزاب الأخرى الموالية). كان الحزب قادراً، كما تبيّن في نجاحاته في الانتخابات المحلية والجهوية العام 2015 ومرة أخرى في الانتخابات البرلمانية العام 2016، على إقناع المواطنين بأن مقاربته ناجعة. وقد أظهر قدرته على الحفاظ على روابطه مع القواعد وتوسيعها، ما ميّزه عن باقي الأحزاب المغربية. كما أنه بيّن فاعليته في اختيار وتحضير مرشحين مثاليين لكل مقعد، بدلاً من الاعتماد حصرياً على مرشحين لهم روابط محسوبيات في قطاعات معيّنة.

ساهمت استراتيجية الحزب، خاصة في حقل التواصل والاتصالات، في تحقيق المكاسب الانتخابية من خلال طرح سردية النجاح بطريقة واضحة وسلِسَة. كان العامل المهم هنا أن قادة الحزب ركّزوا منذ وقت مُبكر على تعزيز روابط الحزب مع القواعد الشعبية الأوسع، كما أبدوا اهتماماً إضافياً بهذه الروابط بعد العام 2011. وبغض النظر عما إذا كانت إصلاحات حزب العدالة والتنمية أحدثت تحسّناً ملموساً في حياة الناس أو حقّقت نوعاً من التغيير الجذري الذي يريده هؤلاء، إلا أن الحزب أشاع الفكرة بأن الإصلاح ممكن. بنكيران وغيره من قادة الحزب منفتحون على الصحافة والإعلام، والحزب نفسه له وجود وازن في الشبكة العنكبوتية، بما في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي، خاصة منها الفايسبوك. وهذه المقاربة، التي هي بمثابة “حملة دائمة”، كان لها شأو بعيد في توليد دعم شعبي حماسي. ومن خلال استراتيجية التواصل والاتصالات، التي كانت تُبرز غالباً التحديات التي يواجهها الحزب، روّج هذا الأخير لإحساس قوي بالإنجاز، مُستخدماً لغة يستوعبها حتى المواطنون غير المُسيَّسين.

قبل بضعة أشهر من الانتخابات المحلية والجهوية، أوضح عبد الحق العربي، وهو عضو في الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ورئيس لجنة الانتخابات في الحزب، في مقابلة مع أجهزة إعلام محلية أن الحزب لايعتبر التحضير للانتخابات عملاً “موسميا”، مُشدداً بذلك على فكرة مشابهة لمفهوم الحملة الدائمة التي طرحها قادة آخرون في الحزب. لكن الحزب أفرد لهذه الانتخابات بالذات شعار”دعوا الإصلاح يتواصل”.

مع اقتراب الانتخابات المحلية في 2015، كان في وسع الحزب طرح إنجازاته بفعالية جيدة. فقد أشعل رئيس الوزراء حماسة الناخبين من خلال حملة الجولات التي قام بها، خاصة في المدن، مُركزاً على ما أنجزته حكومته وماتنوي تحقيقه مستقبلا.كانت اللازمة المتكررة في هذه الحملات هي التزام الحزب بإتمام الإصلاحات التي بدأها، فيما كان أعضاء الحزب يُسلّحون حملاتهم الانتخابية برزمة من لائحة الإنجازات الملموسة، ويفيدون من وضعية بنكيران بوصفه “ظاهرة سياسية” شعبية. كان الحزب يأمل بدورة انتخابية إيجابية على المستويَين المحلي والجهوي، وكذلك على الصعيد الوطني، لكن مع ذلك أصيب بالذهول لمدى الفوز الذي حقّقه.

سجّل حزب العدالة والتنمية نصراً انتخابياً مهماً حين انتخب المواطنون في 4 شتنبر 2015 بشكل مباشر للمرة الأولى، كلاً من ممثلي المجالس المحلية ومجالس الجهات. ففي الانتخابات المحلية، تمكّن الحزب من حصد 5018 مقعداً من أصل 31482، وحلّ ثالثاً بعد حزب الأصالة والمعاصرة (6662 مقعداً) وحزب الاستقلال (5083).113 وفي الانتخابات الجهوية، احتّل الحزب المرتبة الأولى ونال 173 مقعداً في مجالس الجهات من أصل 678.114 كان هذا إنجازاً مهماً للحزب، لأنه رفع على نحو كبير وجوده على المستويات المحلية والجهوية، ما مكّنه من منافسة الأحزاب الموالية للقصر التي كانت حتى ذلك الحين تُسيطر على هذه المجالس.

وعشية الاستفتاء الدستوري العام 2011، فقط أعضاء المجالس المحلية كانوا يُنتخَبون بالاقتراع الشعبي، فيما كان أعضاء مجالس الجهات يُنتخَبون من طرف أعضاء المجالس البلدية. سيطر حزب الأصالة والمعاصرة على الجولة السابقة من الانتخابات المحلية العام 2009، على رغم أنه لم يتشكّل سوى قبل سنة واحدة من هذه الانتخابات. هذا الحزب، الذي يُعتبَر من أشرس منتقدي ومنافسي حزب العدالة والتنمية، أفاد من قربه الوثيق من القصر وارتفع شأوه بسرعة بين الأحزاب منذ ذلك الحين.في ذلك العام أيضا، حلّ حزب العدالة والتنمية سادساً ونال 1513 مقعداً في المجالس المحلية من أصل 27795.

اتفق جماع الرأي بعد انتخابات 2015 على أن فوز الحزب في المراكز المدينية الرئيسة، عكس تمدّد جاذبيته إلى مناطق كانت سابقاً تحت سيطرة أحزاب قديمة كالاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية. والحال أن قدرة حزب العدالة والتنمية على حصد مواقع في أماكن لم يَسُد فيها من قبل- بما في ذلك بعض المناطق الريفية التي كان الناخبون يقترعون فيها تاريخياً بشكل كاسح للأحزاب الموالية للقصر والتي كانت تنسج علاقات قوية مع المجتمعات المحلية عبر الأعيان فيها- هذه القدرة جذبت جل الاهتمام، على رغم أن حزب الأصالة والمعاصرة حلّ في المرتبة الأولى. وما فتىء التنافس بين الحزبين أن تنامى بعد هذه الانتخابات وخلال التحضير للانتخابات الوطنية في السنة التالية.

على الصعيد الداخلي، بدا أن أداء حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية والجهوية يوثّق صدقية مقاربته وسجلّه المنضبطَين في الحكومة. لكن أعضاء الحزب تعجّلوا الأمور حين أعلنوا أن فوز حزبهم يعني خسارة الأصالة والمعاصرة وباقي أحزاب المعارضة، وأن “حقبة التلاعب (في السياسات المغربية) انتهت”، وهذه كانت إشارة إلى الدور الذي يلعبه القصر. لكن على أي حال، عزّزت انتخابات 2015 صعود حزب العدالة والتنمية في السياسات المغربية وأكدت وضعيته كحزب مُهيمن.

غداة انتخابات 2015، وقبيل انتخابات 2016 البرلمانية، تفاقمت حالة الاستقطاب بين الحكومة والمعارضة، وكمن في تضاعيف المنافسة بين حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة احتراس القصر من صعود نجم الحزب الأول. وقد أفسحت هذه البيئة الاستقطابية والمشاكِسة المجال أمام إطلاق الحملات في الإعلام، فسَرَتْ تسريبات تتهم هذا الحزب أو ذاك بارتكاب انتهاكات، وأُلقيت خطب استفزازية، ونُظِّمت حتى مسيرة- يزعم حزب العدالة والتنمية أنها حظيت بدعم الأصالة والمعاصرة ووزارة الداخلية- تُندّد بـ”أسلمة المجتمع”. وعلى مدى شهور عدة، عاين المواطنون المغاربة حملة سياسية متواصلة بين الحزبين لا سابق لها في التاريخ المغربي الحديث.

صعّد زعيم الأصالة والمعاصرة إلياس العماري من حملاته على حزب العدالة والتنمية وعلى رئيسه بسبب أدائهما في الحكومة وإيديولوجيتهما الإسلامية، مقارِناً بينها وبين إيديولوجية الدولة الإسلامية (داعش) المُعلنة ذاتيا. فرد قادة حزب العدالة والتنمية بالتلميح إلى أن العماري مُتورط في صفقات مالية غير مشروعة.

والأهم أن القصر جُرَّ علناً إلى معمعة التشهير هذه، حين بات السياسيون يتحدثون على نحو متزايد عن “التحكّم” (أي التلاعب أو السيطرة). وقد استخدم بنكيران هذا التعبير للإلماع إلى الجهود التي بذلها مستشارو الملك للتلاعب بالسياسات والتأثير عليها وعلى الحوكمة. بيد أن الملك، الذي يبدو أنه شعر بالقلق من انتشار مثل هذه الفكرة، ندّد بأي ذكر لمثل هذا التلاعب، وأصدر بياناً دافع فيه عن فؤاد عالي الهمة، مؤسّس الأصالة والمعاصرة الذي هو أيضاً مستشاره، والذي أورد أحد حلفاء حزب العدالة والتنمية، محمد نبيل بنعبد الله، وزير إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسات المدينة ، اسمه كأحد هؤلاء “المتلاعبين”.

في خضم مثل هذه البيئة الاستقطابية، توجّه الناخبون المغاربة إلى صناديق الاقتراع لانتخاب برلمان جديد في 7 أكتوبر 2016، فحلّ حزب العدالة والتنمية أولاً وحصد نتيجة تاريخية بلغت 125 مقعداً برلمانياً من أصل 395، متفوّقاً بذلك على سجلّه السابق وهو 107 مقاعد في العام 2011. برز حزب الأصالة والمعاصرة كمنافس رئيس لحزب العدالة والتنمية وحلَ ثانياً حاصداً 102 مقعدا، بالمقارنة مع المقاعد الـ47 التي نالها في العام 2011. صحيح أن المناخ السياسي في 2016 كان مُختلفاً عن أجواء 2011، لكن صعود نجم الأصالة والمعاصرة أثبتَ الرأي بأن السياسات المغربية تتحوّل على نحو مطرد نحو أنموذج الحزبين، حيث يجسِّد الأصالة والمعاصرة رد القصر على صعود الإسلاميين. لكن، على رغم أن الفوز كان حليف حزب العدالة والتنمية، إلا أنه ثبُت في العديد من الحالات أنه كان نصراً باهظ الثمن. إذ بعد مفاوضات مطوّلة ومستفيضة لتشكيل حكومة، أُجبر بنكيران على التنحّي، ودلّت الحكومة الضعيفة التي وافق حزب العدالة والتنمية لاحقاً على تشكيلها بأنها كانت نكسة له.

تبعات النجاح

أدى تنامي شعبية بنكيران داخل الحزب وخارجه ونجاحات حزب العدالة والتنمية المتتالية في الانتخابات، إلى تحويلهما إلى هدف. فالقصر والقوى التقليدية في السلطة في البلاد شعرا بالقلق وتحرّكا لعرقلة جهود بنكيران لتشكيل حكومة ثانية، وفي نهاية المطاف لضمان إبعاده عن قيادة حزبه.

معروف أنه كي يتمكّن حزب في المغرب من تشكيل حكومة، يحتاج إلى أغلبية 198 مقعداً في البرلمان. وهذا أمر لمّا يحدث قط في البلاد بسبب تعددية الأحزاب فيها وقوانين الانتخاب المُصمَّمة لمنع أي حزب بمفرده من السيطرة على النظام. ولذا، كان حزب العدالة والتنمية مضطراً لتشكيل ائتلاف، لكن القصر نشط هذه المرة لتقويض الحزب. وهو باستخدامه الأحزاب التي رأت في صعود نجم العدالة والتنمية تحدياً لمصالحها كوكلاء في العملية السياسية، سعى إلى إضعاف هذا الحزب والتخلّص من أهم رصيد فيه: بنكيران.

أخطأ بنكيران، بعدما منحه الانتصار الانتخابي لحزب العدالة والتنمية ثقة بالنفس، في الاعتقاد بأنه يملك ترف الاختيار. لجأ رئيس الوزراء المكلّف في بادئ الأمر إلى شركائه الحزبيين السابقين في الائتلاف – حزب التقدّم والاشتراكية، والتجمّع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية – لتشكيل حكومة، لكن الحزبَين الأخيرَين لم يرغبا في الانضمام مالم يكونا جزءاً من كتلة من الأحزاب ذات نمط التفكير المتماثل. كانت المقاعد التي فاز بها كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة على حساب أحزاب أخرى، بما فيها شركاء حزب العدالة والتنمية في الائتلاف: فقد فاز التجمّع الوطني للأحرار بما مجموعه 37 مقعداً في البرلمان مقابل 52 مقعداً في العام 2011، ونالت الحركة الشعبية 27 مقعداً، بعدما حصدت 32 مقعداً في العام 2011. ومع حصولها على عدد أقل من المقاعد وتمتعها بسلطة تفاوضية أضعف، لم تجد هذه الأحزاب الأصغر المنحازة إلى القصر فائدة تُذكر من الانضمام إلى حكومة بنكيران الجديدة بشكل إفرادي، لأن ذلك من شأنه تقليص نفوذها أكثر. لذلك، أسّس التجمّع الوطني للأحرار، الذي استقال زعيمه صلاح الدين مزوار ردّاً على الأداء الضعيف لحزبه، كتلة مع الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري، ولاحقاً الاتحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية، لكسب المزيد من القوّة التفاوضية.

بيد أن بنكيران رفض دعوة الكتلة بأكملها إلى حكومته، لأنها كانت خاضعة إلى سيطرة أحزاب موالية للقصر منذ أمد بعيد، بما فيها الاتحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية، وهو الحزب الذي كان بنكيران قد دعاه في البداية لكنه رفض لاحقاً شراكته بشكل صارم على أساس أن زعيمه كان بمثابة عقبة. علاوةً على ذلك، اعتبر بنكيران أن من شأن ضمّ الكتلة بأكملها في الائتلاف إضعاف حصة حزبه في الحقائب والنفوذ.

في الوقت نفسه، بدأ بنكيران يُيمِّم وجهه صوب حزب الاستقلال، حين برز زعيمه حميد شباط – الذي كان في السابق عدواً سياسياً فاقعاً – كحليف غير متوقّع. وفي مقابلات أُجريت معهم، تحدّث أعضاء حزب العدالة والتنمية عن اجتماع مزعوم حدث بعد فترة وجيزة من الانتخابات التي يزعمون أنها كانت محاولة لتقويض الحكومة الثانية لحزب العدالة والتنمية. ووفقاً لهذه الروايات، التقى خلال الاجتماع قادة من مختلف الأحزاب – بما فيها حزب الأصالة والمعاصرة، والتجمّع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية – وناقشوا الوسائل الممكنة لوضع العراقيل في وجه بنكيران، في حين رفض شباط الاضطلاع بدور في ماكان أشبه بانقلاب سياسي. وقد سلّط الاجتماع المُفترض الضوء على التبدّل في العلاقات بين شباط وبنكيران. لكن بغض النظر عن هذه السرديات، سرعان ما غرق حزب الاستقلال في مستنقع أزمة قيادية خاصة به، اعتقد بعض أعضاء حزب العدالة والتنمية أن القصر حاكها لنسف محاولات شباط للتمتّع باستقلالية أكبر والتعاطف مع حزب العدالة والتنمية. لم يكن الملك، كما يُعتقد، راضياً عن احتمال وجود ائتلاف يتمتّع القصر بنفوذ متضائل فيه، خاصةً وأن ولاء حزب الاستقلال للقصر كان موضع شكوك.

اصطدمت المفاوضات بحائط مسدود بحلول دجنبر 2016، فأُسقِط حزب الاستقلال من الاعتبار. كان بنكيران لايزال يرفض الكتلة التي يقودها التجمّع الوطني للأحرار؛ وزعيم هذا الأخير عزيز أخنوش، الذي بات لاعباً رئيساً في المفاوضات، وتُطلق عليه الصحافة اسم “صديق الملك الجديد” (عادةً ما يوصف به فؤاد عالي الهمة) كان خارج البلاد. ومع تحوّل الأسابيع إلى أشهر، احتدم النقاش في أوساط الدوائر السياسية المغربية وداخل حزب العدالة والتنمية حول مدى جدوى نهج بنكيران. في خاتمة المطاف، طلب الملك من بنكيران، في 15 مارس 2017، التنحّي والسماح لقائد آخر من حزب العدالة والتنمية بتشكيل حكومة جديدة.

بدا أن الدافع وراء القرار الذي اتخذه الملك كان عجز بنكيران عن إحراز أي تقدم. وكان بنكيران قد ارتأى أنه إذا لم يكن الحزب راضياً عن تشكيلة الائتلاف الجديد – خاصةً إذا ما أدّت مثل هذه التشكيلة إلى قلقلة فوزه الانتخابي – يمكن أن ينتظر حتى تُغيّر أطراف سياسية أخرى رأيها. وعلى العكس، إذا لم يكن الحزب قادراً على تشكيل ائتلاف، بدا أن بنكيران يعتبر انتقاله إلى صف المعارضة خياراً أفضل، فبهذه الطريقة يحافظ الحزب أقلّه على قوّته. قَبِلَ بنكيران والحزب قرار الملك، لكن تنحية بنكيران كانت صدمة بحدّ ذاتها. وبعدها، عيّن الملك سعد الدين العثماني، الأمين العام السابق للحزب ووزير الخارجية السابق (بين 2012 و2013)، رئيساً مكلّفاً جديداً للحكومة.

شكّل العثماني، وهو يرزح تحت وطأة الضغوط، ائتلافاً في غضون أسبوع واحد مع الشركاء الذين كان بنكيران قد رفضهم. وكما كان يخشى هذا الأخير، أدّى تشكيل ائتلاف من ستة أحزاب – حزب العدالة والتنمية، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب التقدّم والاشتراكية، والتجمّع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري – إلى تقليص نفوذ حزب العدالة والتنمية بشكل فعّال (علماً أن الحكومة السابقة كانت تضم أربعة أحزاب)، مضعضعاً بذلك مكاسبه الانتخابية الكبيرة. وأسفر تشكيل حكومة العثماني عن نشوب خلافات وحدوث استقطاب كبير داخل حزب العدالة والتنمية. وتساءلت قواعد الحزب عما حدث لموقف حزب العدالة والتنمية المتشدّد في السابق في الفترة بين 15 و25 مارس، حين تمّ إقرار الائتلاف. أراد الأعضاء أن يفهموا لماذا تراجع العثماني عن موقف الحزب، لكنهم لم يحصلوا على إجابات وافية من قيادتهم.

برزت داخل الحزب، أحاديث عن خيانة، وثورة، واستقالات جماعية احتجاجاً على الطريقة التي تمّ فيها التخلص من بنكيران، وكذلك تشكيل العثماني لحكومته. اشتّد غضب القاعدة من بعض الذين يتولون مناصب قيادية داخل الحزب والذين قبلوا على مايبدو التسوية المفروضة – بما في ذلك العديد من أعضاء الأمانة العامة للحزب – ومن قرار ضمّ الكتلة المؤلفة من التجمّع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الدستوري بأكملها في الحكومة. أما أولئك في حزب العدالة والتنمية الذين فضّلوا اتّباع نهج أكثر تعاوناً مع القصر، فقد اعتُبروا على نحو متزايد أنهم مُستلحقون، وتعرّضوا إلى الترهيب لدفعهم إلى “الاصطفاف مع المؤسسة الحاكمة، وليس مع الشعب”، مايهدّد الاستقلالية النسبية للحزب.

وبالمثل، استاء الفصيل الذي رفض نهج العثماني من داخل قيادة حزب العدالة والتنمية، ولاسيما الشباب، من استراتيجية مراعاة القصر بشكل غير مبرر. ورأى أن العملية الديمقراطية، التي أوصلت الحزب إلى السلطة، لاينبغي تخريبها، ولاسيما في ضوء بيئة الوعي السياسي المتنامي خلال فترة مابعد العام 2011.

برز أيضاً شعور داخل حزب العدالة والتنمية بأن الحكومة الجديدة ستضرّ بسمعة الحزب. إذ وكجزء من ائتلاف ضعيف، سيضطر الحزب إلى المصادقة على – والنظر إليه على أنه متواطئ في – انحداره السياسي. وهذا قد يكلّف الحزب وحدته الداخلية ومصداقيته. وحتى مع اندفاع العثماني للتعويض عن أشهر من الجمود، استمرت النقاشات الداخلية حول كيفية تقليص الأضرار. لكن من دون وجود أي خيارات عملية، انحسرت هذه المداولات، وحتى أعضاء حزب العدالة والتنمية أظهروا في البرلمان انقساماً ومعارضة للحكومة.

حالما انقشع الغبار عن التشكيلة الحكومية، بدأ بنكيران بهدوء البحث عن وسيلة للحفاظ على دوره ونفوذه وتوجيه دفة الحزب من خلال الفوز بولاية ثالثة كأمين عام. لكن غالباً ما نفى بنكيران اهتمامه بهذا المنصب، وشدّد على أنه سيقبل مايطلب منه الحزب – أي أن يتولى منصب الأمين العام أو أن يتنحى نهائياً. كان طموح بنكيران للفوز بولاية ثالثة قد زاد من انقسام الحزب في الفترة التي سبقت مؤتمره الوطني، وهدّد بخلق قيادة متعددة الرؤوس. بيد أن المجلس الوطني للحزب صوّت، قبل مؤتمره الثامن، ضد تعديل نظامه الداخلي، الأمر الذي كان من شأنه أن يسمح لبنكيران بتولي منصبه لولاية ثالثة. وبذلك، دلّل الحزب، مرة أخرى، على نحو فاقع مدى براغماتيته. كان ثمة شعور في أوساط أعضاء الحزب بأن تعديل النظام الداخلي كان مضموناً تقريباً – لكن حصوله أم لا على الأصوات الضرورية لذلك كان مسألة أخرى. وفي حين كان الحفاظ على الحد الأقصى لولاية الأمين العام عند فترة الولايتين يصبّ في صلب المبادئ الديمقراطية للحزب، وفي إطار التشديد على أن مصلحة المؤسسة الحزبية فوق أي فرد بعينه، رأى العديد أن ثمة ظروفاً استثنائية، وأن التقدم الثمين الذي أحرزه الحزب يتطلّب تضحيات على غرار تغيير النظام. من المرجح أيضاً أن البراغماتيين داخل الحزب – الذين أدركوا القلق المتنامي للقصر حيال بنكيران ورغبته في عدم تولي هذا الأخير منصباً قيادياً – لم يرغبوا في إرسال مؤشرات تحدٍّ إلى القصر من خلال إعادة انتخاب بنكيران أميناً عاماً للمرة الثالثة. لذلك، تمّ التصويت، خلال مؤتمر الحزب في 9 و10 شتنبر، لصالح تعيين العثماني أميناً عاماً، ما أنهى الدور القيادي لبنكيران.

وفي شتنبر الفائت، شهد المغرب نهاية موجِعة لأزمة في القيادة العليا، كان يعاني منها حزب الاستقلال منذ أشهر. فقد شهد الحزب انقساماً مريراً حول بقاء شباط أو رحيله. هذا الخلاف – الذي تحوّل إلى عراك في أكثر من مناسبة خلال الاجتماعات التي عُقِدت بين مؤيّدي شباط وأولئك الذين يريدون قائداً يسهل أكثر التنبّؤ بقراراته ويحظى بموافقة القصر – بلغ ذروته خلال مؤتمر سُمّي محليّاً بـ”مؤتمر الصحون الطائرة”، الذي تراشق خلاله مناصرو شباط وخصومه بالصحون، ماترك وصمة عار على جبين هذا الحزب الذي كان يُعدّ حزباً محترماً وعريقاً. في نهاية المطاف، انتخب حزب الاستقلال نزار بركة رئيساً له، وهو شخصية تحظى بموافقة القصر، وأصبح شباط منبوذاً سياسياً. يمكن اعتبار النزاع الذي خاضه حزب الاستقلال حول قيادته العليا – والذي وصفه أحد أعضائه بأنه صراع على روح الحزب – بمثابة رسالة موجَّهة إلى أحزاب أخرى لتحذيرهم من مغبّة تحدّي النظام الملَكي.

يتمتّع حزب العدالة والتنمية بانضباط كبير يمنعه من المجازفة بإظهار تشرذم في صفوفه على الصعيد الوطني. كما أن الحزب نجح حتى الآن، على مايبدو، في تفادي إسفين الانشقاق الذي كان كُثُرٌ، ومن ضمنهم بنكيران، يخشونه. لكن العثماني لايزال مكلّفًا بمهمة صعبة تتمثّل في إدارة حكومة يُنظَر إليها على أنها ضعيفة وغير فعّالة. يُعزى هذا التصوّر جزئياً إلى سوء تعامل حكومة العثماني مع الاضطرابات التي شهدتها مدينة الحسيمة ومنطقة الريف الأوسط الشمالي. وقد انطلقت شرارة الاحتجاجات في الحسيمة في أكتوبر 2016 عقب مصرع بائع سمك من المدينة طحناً بين فكَّي آلة طحن النفايات، وهو يحاول استعادة أسماكه التي صادرتها الشرطة المحليّة. سلّطت هذه الحادثة الضوء على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تعاني منها البلاد، وأماطت اللثام عن العيوب التي تشوب الحوكمة فيها. وتفاقمت الاضطرابات مع حملة القمع التي شنّتها الحكومة على المتظاهرين، وموجة الاعتقالات الجماعية، والعنف، والضغوط التي مارستها على الصحافيين حول تغطيتهم لتلك الأحداث.

وسُرعان ما اغتنم الملك، الذي امتنع عن الرد بشكلٍ مباشر على احتجاجات الريف، هذه الحادثة لجعل السياسيين والبيروقراطيين مجدّداً كبش فداء. فقد استخدم الملك احتجاجات الريف تحديداً والتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المغرب عموماً، لإنحاء اللائمة بنبرة قاسية غير معهودة، على السياسيين والتكنوقراط في كلمة ألقاها بمناسبة عيد العرش في 31 يوليوز 2017. ثم ألقى كلمة أخرى في 13 أكتوبر خلال الجلسة الافتتاحية للبرلمان، وعد فيها بـ”زلزال سياسي” لحلّ مشاكل الحوكمة الكثيرة التي تعتري البلاد – وشكّلت هذه الكلمة ردّاً متأخّراً وغير مباشر لأزمة الريف. كذلك، دعا في معرض كلمته إلى تشكيل وزارة مُكلّفة بالشؤون الأفريقية (ومُلحقة بوزارة الشؤون الخارجية)، وتأسيس قسمين للتتبّع في وزارتَي الداخلية والمالية، وتسريع عملية إرساء اللامركزية الإدارية، بالتزامن مع برنامج الجهوية المتقدّمة الذي يُخطّط له منذ أمد بعيد، لكنه لم يؤتِ أُكله بعد.

وقع “الزلزال” في 24 أكتوبر، مع إقالة مروحة من الوزراء والمسؤولين الحكوميين والبيروقراطيين رفيعي المستوى، من ضمنهم محمد حصاد، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي (ووزير الداخلية السابق في حكومة بنكيران)؛ ونبيل بنعبد الله، وزير إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسات المدينة؛ ووزير الصحة الحسين الوردي. وكان هدف هذه الإقالات إعطاء انطباع لسكان الريف بأن المسؤولين يخضعون إلى المساءلة والمحاسبة، وإظهار أن الملك مهتمٌّ بإصلاح الإدارة العامة. وقد عزّزت هذه الخطوة صورة المَلَكية على أنها الآمر والناهي في السياسة المغربية، وقوّضت الحكومة، كما شكّكت بالسجل السابق للحكومة وبسرديتها حول نجاحها – وأعادت التأكيد على هيمنة الملك.

خاتمة

شكّل الانتصاران الانتخابيان اللذان حصدهما حزب العدالة والتنمية، وقدرته على تبنّي موقف يتمتع باستقلالية أكبر حيال القصر – لم يظهر خلاله الحزب بمظهر المتحدّي أو الخاضع – مقاربة جديدة في السياسة المغربية، أثبتت نجاحها وأطلقت صفّارة الإنذار في القصر الذي يطلّ على السياسة المستقلّة بعين الحذر. ومع أن بنكيران مُنع من تأليف حكومة في العام 2016 – بسبب تصميم القصر على مقاومة مثل هذه المقاربات وفرض سيطرته مجدّداً على الساحة السياسية – إلا أن حزب العدالة والتنمية أظهر أنه يمكن لحزبٍ أن يتبنّى مساراً يتّسم باستقلالية أكبر حيال السياسة والحوكمة، وأن مثل هذا المسار يحظى بشعبية لدى الناخبين. ومع أن إصلاحات الحزب كانت متواضعة، إلا أن الصدى الذي لاقته مقاربته في أوساط العديد من الناخبين كان مُلفتاً، وفق المعطيات المغربية. لذا تُعتبر التجربة التي خاضها حزب العدالة والتنمية، من نواحٍ عدة، أهم من السياسات التي سعى إلى إنفاذها.

واقع الحال أن حزب العدالة والتنمية أظهر أن الاستثمار في إقامة روابط مباشرة مع الشعب يُعَدّ خطوة فعّالة نحو تحقيق نجاح انتخابي، وأثبتت تجربته أن الناخبين والقصر هما على القدر نفسه من الأهمية. والأهم من ذلك أنه كشف ضمناً أن مصالح الناخبين والقصر لا تتقاطع دائماً. إن عملية الشدّ والجذب التي خاضها حزب العدالة والتنمية – والتي تأرجحت بين الإذعان للملك من جهة وبين واجبات الحزب حيال الناخبين من جهة أخرى – أماطت اللثام أكثر عن الهوّة التي تفصل سائر الأحزاب عن الناخبين. وقد تمثّل ردّ فعل القصر على هذه التطورات بإيصاد الأبواب أمام عملية الانفتاح السياسي التي كان قد أتاحها على مضض. لكن، ومن خلال دعم العثماني في تشكيل حكومة ضعيفة وتهميش بنكيران تدريجاً داخل الحزب، صادق القصر نوعاً ما على النجاح الذي حصده حزب العدالة والتنمية والذي لم يعمّر طويلاً.

لا يُعتبَر رد فعل القصر تجاه حزب العدالة والتنمية خارجاً عن المألوف، ويمكن اختزاله بسعي الملك الذي استعاد نشاطه السياسي إلى تهميش الأحزاب السياسية والتعتيم عليها. فقد مارس القصر أولاً ضغوطاً على حزب العدالة والتنمية – بعد عرضه الانتخابي القوي – كي يقبل بالعمل ضمن حكومة ضعيفة. ولتحقيق ذلك، منح القصر أحزاباً أخرى نفوذاً أكبر بكثير من حجمها الانتخابي، على غرار مافعله عندما استخدم التجمّع الوطني للأحرار لعرقلة عملية تشكيل الحكومة في أعقاب انتخابات العام 2016. أما الضربة الثانية فتمثّلت في تنحية بنكيران، ماسلّط الضوء على نزعة القصر إلى التدخّل في الديناميكيات الداخلية للأحزاب.

إن ما شهده حزب العدالة والتنمية في الأشهر القليلة الماضية كان شبيهاً بعملية نزع الشرعية التي طالت أحزاباً أخرى أيضاً. لكن على الرغم من إضعاف الحزب، إلا أنه لايزال قوياً على المستوى الإداري المحلّي، ولايمكن إغفال خبرته الحكومية بالكامل. فهو أدار دفة حكومة فعّالة حاولت الحفاظ على بعضٍ من الاستقلالية، والتزمت بصدق إجراء بعض الإصلاحات، وأبدت رغبتها – وإلى حدٍّ ما قدرتها – على خدمة الشعب.

مع أن مقاربة القصر في هذا الصدد ليست جديدة، إلا أن تدخّل الملك الحادّ قد يؤدّي إلى تداعيات كبيرة تلقي بظلالها على القصر، الذي بات عليه راهناً أن يتكيّف مع تنامي الوعي الشعبي للتداعيات الناجمة عن تلاعبه السياسي ومقاومته للإصلاحات. فالمناورات السياسية الراهنة لاتجري في فراغ، كما أن المغاربة باتوا أكثر اهتماماً بالسياسة، ولازالوا مستعدّين لرفع الصوت عالياً والحشد (كما أظهرت احتجاجات الريف، وإن على مستوى جهوي).

مع أن السياقَين الوطني والإقليمي الراهنين مختلفان عن العام 2011، إلا أن البلاد لاتزال في حاجة إلى لاعبين سياسيين يحظون بالمصداقية ويتمتعون بالاستقلالية عن النظام الملَكي. ففي ظل غياب لاعبين سياسيين مناسبين يتمتّعون بقدرٍ من الاستقلالية، قد يصعب على القصر منفرداً تلبية التوقعات السياسية الأعلى للمغاربة. ومع تسليم زمام الحكم إلى لاعبين سياسيين عاجِزين، قد تنقلب بوصلة الاستياء الشعبي نحو القصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *