جهويات

آيت باعمران : اكتشاف معامل تاريخية تحت الأرض

كَشف فريقٌ للبحث في اركيولوجيا مناطق الجنوب، في لقاء علمي مؤخرا بمدينة افني، عن حقائق علمية جديرة بالاهتمام، وغير مسبوقة. وهي اكتشافات علمية مهمة ستضاف إلى التراكم العلمي لهذه المناطق، كما ستساعد لا محالة، في فتح أفق جديدة للبحث الأَركيولوجي، التاريخي والانثروبولوجي. تبدأ بطرح أسئلة مغايرة وتأويلات ممكنة لفهم ماض المجتمعات التي كانت تسكن هذه المجالات وعلاقتها بالشعوب الأخرى.
هذا الفريق الذي يستحق أكثر من التنويه والتشجيع يتكون من مجموعة من الباحثين المغاربة والاسبانيين كالعالم الاركيولوجي المغربي “يوسف بوكبوض” وزميله العالم الاسباني Jorge ONRUBIA-PINTADO. بدأ في العمل بمنطقة وادنون وإمي- أوساكا بايت باعمران لمدة 3 سنوات واستطاعوا بعد عمليات وحفريات عديدة تحديد خريطة أثرية مهمة تحتوي على أكثر من 300 موقع أثري.
أهم ما تم اكتشافه في هذه العملية هو برج “سان ميكال” وهي قلعة عسكرية شيدها الإسبان بعد اجتياحهم المنطقة خلال القرن الخامس عشر في إطار الاستكشافات الجغرافية التي كانت اسبانيا والبرتغال تتزعمها في المحيط الأطلسي. ولكن، حدث أن سكان المنطقة آنذاك حاصروا القلعة وشنوا عليها هجوما وقتلوا كل الجنود الإسبان الذين كانوا يسكنوها، وحطموها. هذه القلعة؛ وإن كانت بعض المصادر القليلة تحدثت عنها بشئ من الغموض، إلا أنها كانت شبه مجهولة بسبب غياب معطيات وافية عن موقعها ومرافقها وشكلها. وقد نجحت هذه الحفريات الأركيولوجية في إعطاء المزيد من المعطيات التاريخية المهمة ليس فقط عن القلعة وإنما عن فترة وسياق تاريخي مهم وهو عصر الاكتشافات الجغرافية. واحتكاك المغاربة بالغزاة الإبيريين.
لذلك، فإننا نتوفر اليوم على معطيات ومعلومات مهمة، تتعلق أولاً بطريقة بنيان هذه القلعة، ومواد البناء وأشكاله، وربما عن مرافق أخرى يمكن الاعتماد عليها في إطار التاريخ المقارن من أجل الوصول إلى معلومات أخرى تساعد الباحثين على الإجابة عن إشكالات تاريخية متعلقة بهذه الفترة.
وقد سبق لباحث انثروبولوجي من الجزر الكناري في مدينة سانتاكروز بجزيرة “تين إيريفي”، كان في فترة سابقة مديرا للمتحف البشري والطبيعي بهذه المدينة، أن تحدث لي عن معارك كثيرة جرت بين الكوانش- امازيغ كناريا – مع القبائل الامازيغية في ايت باعمران بواد أساكا تحديدا، حيث كشف لي الباحث، عن وجود مصادر تاريخية تتحدث عن هذه الحروب، حيث تعمدت اسبانيا التي احتلت آنذاك الجزر الكناري ، أي بداية القرن الخامس عشر، على تجنيد الكناريين الذين يتحدثون الامازيغية لشن حروب وغزوات على إخوانهم الامازيغ بسواحل المغرب.
إذن هذه فترةٌ تاريخيةٌ طويلة امتدت على ما يزيد عن قرن من الزمن، لكن للأسف الشديد، لا نعرف عنها أي شيء، ما عدى بعض المعطيات العامة في مصادر أجنبية محدودة وكتب الرحلات التي عادة ما تكتفي بالوصف وقلة المعطيات.
وإذا كانت هذه الحفريات تكتسي أهمية بالغة في معرفة حقائق تاريخية مرتبطة بذاكرة مرحلة مهمة، فإن اكتشاف بقايا معمل لتجميع نوع من الصباغة كان يستخرج من بعض الأسماك وبعض الأصداف البحرية، يعد سبق علمي جدير بالاهتمام، وربح كبير للتاريخ والذاكرة للمجتمع المغربي بصفة عامة ولهذه المناطق الجنوبية بصفة خاصة. واعتقد أن هذا الاكتشاف جاء ليزيل اللثام والصمت عن صفحات منيرة في تاريخنا القديم، وتتعلق بالصناعة والتجارة وعلاقة أسلافنا بعالم البحر والمحيط. حيث يعتقد الكثير من الباحثين الذين يتسرعون في إطلاق الاحكام على أن الامازيغ والمغاربة اعطوا ظهورهم للبحر الذي كان يخيفهم.
والثابت علميا إلى حد الآن؛ آن سكان سواحل الجنوب كانوا يستخرجون ألوان صباغية من بعض الأصداف البحرية، لا سيما من “تانكروزت” المعروفة لذى ايت باعمران، وهو لون قريب من “الارجوان” وكانوا يقومون ببيعه للتجار الاجانب عبر البحر في فترات ما قبل الميلاد وبعده.

وقد تحدثت بعض مصادر التاريخ القديم على أن الملك الامازيغي “يوبا الثاني” كان مشهورا بهذه التجارة، وساهمت في تعزيز وتقوية مملكته وكانت تجارة الصباغة مزدهرة في عهده من خلال تزايد الطلب على اللون الأرجواني الذي كان يستخرج من “تانكروزت” الذي يعشقه الملوك وحريمهم في امبراطوريات العالم المتوسطي وخاصة روما. وإن كان الفنيقيين هم الذين تميزوا بهذا اللون والاتجار فيه في سواحل المتوسط، إلا أن أرجوان الامازيغ الذي ساهم الملك “يوبا الثاني” في تشجيع استخراجه وصناعته في سواحل الجنوب كان ذو جودة عالية ومميزة. وقد ذكر كتاب ومؤرخين كبار بعض مميزات هذا الأرجوان الامازيغي القادم من سواحل الجنوب كالروماني “هوداس” وآخرون.
حتى لا نطيل؛ نود الإشارة إلى أن أسلافنا الأولون ومنذ قرون، كانوا بفعل اعتمادهم على مواد بسيطة وتفاعلهم الكبير مع محيطهم، استطاعوا منازعة شعوب وإمبراطوريات عظمى في حجم روما، في التجارة والصناعة والحضارة والعمران. وبالرغم من محاولات يائسة لتشويه وتسفيه تاريخنا وحضارتنا ومحاصرتها بالصمت والتزوير، وتحويل التاريخ إلى سرد لأمجاد وبطولات أسطورية وخرافية للأشخاص والسلاطين، كلها محاولات تتبدد وتنكسر على صخرة العلم والبحث والتنقيب. وما اكتشاف بقايا لمعمل لتجميع ألوان وصباغة “تانكروزت” وما شابهها في مصب واد أساكا بايت باعمران، لحلقة ضمن سلسلة طويلة من الأسرار التاريخية التي تحبل بها مناطق الجنوب المغربي الممتدة في الساحل والصحراء. أسرار ستكشف عن المزيد في أشكال الحضارة والعمران والتثاقف والبنيان عند الأسلاف.
هذه إشارة سريعة وبسيطة، نريد من خلالها توجيه بوصلة النقاش إلى البحث في تاريخ وحضارة مجتمعنا في بنية الزمن الطويل، من أجل الفهم، وليس شيء آخر إلا الفَهم.
فهمُ العُمق، لأنه به، وعليه يمكن البناء.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *