مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -13-

الحلقة 13 والأخيرة:

قطار الحياة

لم يكن المسؤول الجديد عدوانيا كسابقه، على الأقل بالنسبة إليّ. في أول يوم تعيينه وتعرفه على الحرّاس والأسرى قرر أن ينشئ حديقة كبيرة بجانب المَحبس أو المخيم كما يسمونه هم. وقعت عينه عليّ وعلى زميل من “تونانت” فأمرنا أن نتكلف باستصلاح الأرض وغرس الحديقة الكبيرة بالخضروات. اشتغلتنا معا في تلك الحديقة قرابة السنتين، أعمل في الأرض كما كنت أفعل في السنوات البعيدة قبل أن ألج الخدمة العسكرية.

كان لي خلاف دائم مع أحد الحراس في عهد “صيلة”. لا أذكر اسمه، لكنني أتذكر الشكايات العديدة التي كان يرفعها بي، مرة يخبره أنني أتمارض ومرة يخبره أني لا أشتغل كما يجب.

كان رئيس المركز وقتها لا يأخذ كل ذلك مأخذ جد. يتحقق من وشاياته أولا وبعدها يتخذ قرارا. مرة اتهمني أني سرقت حبات البصل من تلك الحديقة التي أحرثها وأزرعها منذ سنتين. أذكر أن رئيس المركز أجابه وقتها:

ـ اسمع، دع عنك “الشليّح”، مهمتك أن تحرسه من الهرب.

كان ذلك في نونبر من سنة 2000، لما غادر الرئيس قال لي وقتئذ:

ــ تحصل تحصل، ولو بعد عام.

لم أجبه، لكن الأقدار أجابته بدلا عني. لم تمض سوى ثلاثة أيام عن تلك الواقعة التافهة حتى جاء قرار الإفراج عنا.

أتذكر جيدا تلك اللحظة التاريخية التي وشمها الفرح بداخلي، ذهبت لساحة المعتقل لاستقصاء أمر ما، فالتقيت رفيقا لي من صفرو فباغثني:

ـ ألف مبروك يا عليلوش.

ـ مبروك ماذا يا الغمري؟

ـ الإفراج! كل الذين اعتقلوا في 1976 سوف يفرج عنهم.

عدت إلى غرفتي منتشيا من سكرة الفرح. لقد تعودت على سماع هذه الأخبار اللذيذة وكلها أخبار كاذبة، لكنني شعرت هذه المرة أن الأمر يختلف عن المرات السابقة. إحساس داخلي قوي يخبرني أنني سأغادر المحبس نحو قريتي. لم يُغمض لي جفن تلك الليلة، استلقيت في سريري متأملا سقف الغرفة. فكرت أن أوقظ رفاقي ليشاركونني الفرحة، إثنان من أسرى 76 وآخر من أسرى 77. بعد برهة تخلصت من الفكرة، وبقيت وحيدا أنتظر الصباح.

بُعيدَ الفجر بدأت المناداة على الأسماء بغية توزيع الأسرى على الأعمال اليومية. عزل رئيس المركز الأسرى المقبوض عليهم سنة 76، وأمرنا أن نعود إلى غرفنا لجلب ملابسنا بسرعة.

قرب الغرف التقيت حارسا فظا هنأني بمناسبة الإفراج وطلب مني الصفح. كان الوقت غير مناسب لأي حديث عن الصفح والغفران، لذلك أسرعت لجلب أغراضي لألتحق برفاقي.

بعد ذلك انطلقوا بنا من عوينت بالكرع نحو المعتقلات الأخرى القريبة لجلب بقية المساجين الراسخين في الأسر من جيلي. اجتمعنا في مدرسة لا تبعد كثيرا عن الرابوني. قضينا هناك أسبوعا كاملا من الانتظار الممل الطويل. عندما جاء نشطاء الصليب لرؤيتنا، أخبرونا أنهم تلقوا اتصالا من سلطات الپوليزاريو، اتصالا مفاده أنهم يرغبون في إطلاق سراحنا، لكن الأمر يتطلب موافقة المغرب ـ بلدنا ـ إن كان يرغب في استقبالنا أم لا؟

“أم لا؟”.. هل تملك دولتنا خيارا آخر غير استقبالنا بالأحضان؟ أَيمكن أن يتنكر لنا مسؤولو بلدنا بعد كل هذا العمر المهدور من سجن لآخر؟

انتظرنا 24 ساعة إضافية نضرب الأخماس في الأسداس. 24 ساعة كانت بالنسبة لنا أطول من الـ24 سنة التي قضايناها في الأسر وأقسى. ماذا لو رفض المغرب استقبالنا؟ ماذا لو اشترط شروطا ما على الانفصاليين ويرفضونها؟ ماذا سيكون مصيرنا لو لم نُرحّل لبلدنا؟ آلاف السناريوهات ظلت في تفكيرنا كل تلك 1440 دقيقة التي مرت علينا في انتظار الجواب.

بعد عصر اليوم الموالي جاء الرد من الطرف المغربي بأنه يرحب بأسراه ويريد استبقالهم، مع ذلك خاطبنا أحد نشطاء الصليب الأحمر الدولي:

ـ “تلقينا ردا من المغرب يفيد استعداده لتسلمكم، لكننا دائما في مثل هذه الحالات نطرح سؤالا عن كل المفرج عنهم، هل تودون الذهاب جميعا إلى المغرب أم يوجد بينكم من لا يرغب في ذلك، ويحب الذهاب إلى دولة أخرى؟ لأن من يرغب فيكم في دولة أخرى غير بلده المغرب فنحن مستعدون لنقله إليها تحت رعايتنا و مسؤوليتنا.”

لقد استغربنا كثيرا من هذا السؤال الذي اعتبرناه ساخرا وتهكما منا و حاطا من كرامتنا. أخبرناهم أننا جنود مغاربة، لم نرتكب جريمة كي نهرب، لقد أعتقلنا منذ 24 سنة وزيادة دفاعا عن وطننا وحدوده وامتثالا لأوامر رؤسائنا المغاربة، فأي جدوى لهذا السؤال بعد كل ما ذقناه في الأسر.

 إن لنا أبناء وأمهات وزوجات وأخوال وأعمام وأقارب وجيران في المغرب وكلنا شوق للقائهم.

أمرونا أن ننتظر حتى تأتي طائرة من جنيڤ يوم غد وبعد ذلك سنرحل نحو بلدنا المغرب.

على الساعة العاشرة صباحا بدأت وفود من الصحافيين تحج نحو المكان الذي بتنا فيه، يصوروننا ويسألوننا أسئلة تافهة من قبيل: هل تودون الذهاب فعلا للمغرب؟ أحد زملائي صرخ في وجه أحد صحافيي إحدى القنوات التلفزية: لن أُجيب على أسئلتك الغبية.

أقلتنا حافلات ونحن 201 أسيرا نحو مطار تيندوف. انتظرنا الطائرة التي ستنقلنا للمغرب قرابة الساعة، والانتظار يفقدني أعصابي، يجعلني أتخيل أن حلم الافراج ليس سوى وهما.

 ها هي ذي ذات الجناحين تقف غير بعيد عنا، وها نحن نصعد إليها زُرافات و وِحدانا، وهاهو حلم الفرج المؤجل منذ ربع قرن قد بدأ يتحقق.

 تنطلق الطائرة نحو المغرب والفرحة العظيمة تغمرني، شيء أكبر من الفرح بكثير. بدأوا بتوزيع قطع من الشكولاطة علينا، فأخبرناهم أننا صائمون، فقد تزامن الافراج مع رمضان. بعد ذلك قاموا بتوزيع وجبة الغذاء على المرضى الذين لم يستطيعوا الصيام منّا. فيما احتفظ الصائمون منا مربعات الشكولاطة إلى المغرب.

حطت الطائرة بمطار الدشيرة بأكادير، بعد أن صعد مسؤول عسكري لعدّنَا نزلنا نحو أرضية المطار لشكر الله على أننا مازلنا على قيد الحياة والآن على قيد الحرية..

ركبنا حافلات في اتجاه ثكنة عسكرية وبها قضينا مدة لاستكمال الإجراءَات الضرورية. بدأت عائلات الأسرى في التوافد إلى أكادير لزيارتنا وتقديم الوثائق اللازمة من عقود ازدياد وعقود زواج وغير ذلك، ثم بعد ذلك وُزّعنا على المستشفيات للتطبيب.

قضيت شهرين في مستشفى بمراكش للتداوي من مخلفات سنين القهر وسوء التغدية والأعمال الشاقة، وبعدها عدت إلى أكادير نحو الثكنة العسكرية لترتيب أوراق التقاعد. بعد أسبوع جاء أخي ليرافقني نحو بلدتي “النقوب” في تخوم الجنوب الشرقي. كنت كمن عاش في كهف مدة ربع قرن وفجأة يخرج للقاء الناس في هذه الدنيا التي تغيرت كثيرا.

  وصلت بيتنا ليلا، وجدت أُمي وبعض أقاربي في انتظاري.. أمي التي أخبرها شهود زور أنني دفنت في رمال الصحراء، تتحسس وجهي كطفل صغير لتتأكد إن كنت حقيقة أم طيفا من أحلامها الليلية.  ثم تنخرط في نوبة بكاء.

في تلك الأيام التي تلت وصولي، اعتكفت داخل المنزل لاستقبال جحافل الجيران والأقارب الذين جاؤوا للتأكد من أنني ما أزال حيا. بقيت صموتا، أكتفي بالنزر القليل من الكلام كالردود المختصرة عن الأحوال والمآلات. كنت أشعر أن أحوال الناس تغيرت نحو الأحسن لكن قلوبهم قست وتحجرت، وأن نضوب الآبار وشح السماء أثّر كثيرا على عواطفهم ونفسياتهم. طغت الماديات على تصرفات الأفراد وغدت تحركاتهم محسوبة بما يمكن أن يجنوه من مال ومصالح.

وجدت أثمان المواد قد تضاعفت ست مرات وأكثر، لدرجة ظننتُ فيها لوهلة أولى أن البائعين يتعمدون مضاعفتها مرات كثيرة لأنهم يعلمون جهلي بأثمنة المواد وأحوال السوق!

بعد شهور من النقاشات الداخلية، بين عدّي الأسير وعدّي العائد وعدّي الذي كنته قبل أن أغادر هذه القرية الهادئة قبل ربع قرن، قررت أن أتخلص من الماضي وأثقاله وأبدأ حياة جديدة بنفسٍ شبابي.

صحيح أن ما أتقاضاه من تقاعدي هو 1800 درهما شهريا، وتكاليف العيش الجديد لا تُتحمل، الكراء والدواء والأكل والشرب وغير ذلك، خاصة وأني قررت أن أستقل بنفسي وأبدأ من جديد. لكني عزمت على ألا أفني ما تبقى من عمري في انتظار الذي يأت وقد لا يأتي.

 تزوجت وأنجبت لي زوجتي إبنا..

تقدمت بطلب الحصول على رخصة استغلال سيارة أجرة بزاكورة دون جدوى، ثم جددت الطلب بورزازات بعدما غيرت  محل سكني. أذكر أن مسؤولا يبحث عن ذريعة لرفض طلبي رد عليّ:

ـ أنت لست من هذه المدينة كي تقدم طلبك هنا. يجدر بك أن تقدم طلبك في مسقط رأسك.

حاولت أن أقنعه أنني عندما أُسرتُ في الصحراء لم أكن أدافع عن هذه المدينة أو تلك، بل كنت أدافع عن وطني، وأنّى ذهبتُ فتلك مدينتي وسكناي.

قُبِل طلبي بعد شهور، وحياتي بدأت تأخد منحى إيجابيا بأطفالي الصغار الذين فرحت بقدومهم، لولا أن والدتي التي انتظرتني طويلا قد سلمت روحها لخالقها في حادثة سير بعد شهور فقط من عودتي، وكأنها كانت تنتظرني أن أعود لتطمئن أني ركبت ولو متأخرا قطار الحياة،

 فتنزل هي منه..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *