جهويات

هيبتن الحيرش يكتب: سفر على حافة الرتابة

55 كيلومترا  فقط تفصل كلميم عن إفني. وبمجرد أن يضع المرء قدمه بإفني ينتابه شعور بأنه في عالم مواز. بدءا من فم فاست، يتبدى له الاختلاف على مستوى المناخ والمناظر الطبيعية، وكلما ابتعد عن عاصمة وادي نون، وجد نفسه أمام غطاء نباتي آخر : شجيرات  الدغموس متفرقة هنا وهناك، حقول الصبار على مدى البصر (مع قدر من المبالغة)، وهي مصدر رزق لعشرات العائلات؛ ذلك أن ثمرتها مفضلة لدى ساكنة جهة وادي نون، التي أصبحت إفني تابعة لها إداريا حسب التقسيم الجهوي الأخير.

في الطريق إلى حاضرة أيت بعمران، للمسافر أن يمتع ناظريه بسلسلة الجبال التي كان رجال المقاومة يلوذون بها إبان حرب التحرير، وهنا يمتزج التاريخ بالجغرافيا أو بالأحرى يختلط الزمان بالمكان في مخيلة المسافر، الذي يسكنه الحنين إلى الماضي القريب أو البعيد، فيغرق في بحر من أحلام اليقظة غير مبال بالواقع الذي تحيط به أمواجه من كل جانب.

الشاطئ ورقة رابحة لإفني، لا شك في ذلك. لكن للأسف، في الآونة الأخيرة، غزته جيوش جرارة من الحجارة، لدرجة أن الرمال كادت تختفي، وأضحى من الصعب إيجاد موضع قدم للتنزه، لاستنشاق الهواء العليل أو ممارسة الرياضة، وكأن البحر لفظ هذه الحجارة موجها رسالة مشفرة للسلطات المختصة، التي، بطبيعة الحال، لم تتحرك والغالب أنها لن تحرك ساكنا بهذا الصدد.

للملاحظ أن يتساءل ببراءة تقترب من السذاجة: ماذا ينتظر هؤلاء لحل المشكل ؟ أن تمطر السماء حجرا كما في أساطير  الأولين ؟ السماء لا تمطر ذهبا على كل حال. هذا، علما أن المدينة قبلة لعدد كبير من السياح القادمين من شتى أرجاء  المعمورة، يصادفهم الراجل والراكب في كل نقاطها الحيوية: في السوق البلدي، الكورنيش، الأزقة، المنحدرات، بل ويراهم على أجنحة البحر…

عشت بإفني من 1978 إلى 1988. زرتها من أيام، فحاولت أن أقوم بجرد ذهني لما حدث فيها من تغييرات، لكن اللائحة لم تكن طويلة: ترميم الاعدادية التي درست فيها (وهذا شيء أثلج صدري)، بناء فندق بجوار المستشفى، مسجد في الحي العلوي، افتتاح مقهى هنا أو هناك، ها هنا ينتصب المقر القديم للعمالة، وهناك مقرها الجديد، إعادة تأهيل الطريق المؤدية إلى تيزنيت، الطريق  المؤدية إلى كلميم، ولا شيء آخر يذكر. لحسن الحظ، لا زالت الحدائق الثلاث، وهي نوعا ما مبعث الفخر بالنسبة للساكنة، تحظى بالتعهد المطلوب.

كنت في الثمانينات أرتاد المكتبة العمومية المتواجدة على بعد خطوات من الكورنيش. قررت  خلال زيارتي الخاطفة أن ألقي نظرة على هذا المرفق فوجدت القيمة عليه منهمكة في ترتيب الكتب قبل إعادتها إلى رفوفها، يساعدها طفل يبلغ من العمر حوالي تسع أو عشر سنوات، الظاهر أنه ابنها (فكرت في تقبيل جبينه، لكني تراجعت عن الفكرة). وقع نظري على عنوان كتاب من أمهات الأدب العربي القديم : العقد الفريد لابن عبد ربه. يالها من  صدفة غريبة، قلت في قرارة نفسي، إفني هي درةُ العقدِ الفريدِ اليتيمةُ، والعقد الفريد هنا جهةُ وادنون، ألا  تستحق منا  شيئا من العناية ؟

(ترجمه من الفرنسية حمدي الحيرش وراجعه الكاتب)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *