آراء

كورونا..الاقتصاد والانسانية

حين اخذت ولدي الى باريس، و هو حينها ابن الخمس سنين، وقف متجمدا تحت اقدام برج ايفل ، في موقف لم اشهده منه من قبل ولا من بعد، توقف دقائق طويلة يحملق في تلك الكتلة الحديدية المتعالية نحو السماء وأحاسيسه كلها شبه منقطعة عن العالم الخارجي، كأن البرج الحديدي ابتلعه من الارض نحو عالم من الاعجاب المفرط .. استغرق دقائق في تلك الحالة لا يسمع و لا يرى اي شيء كأن الدنيا توقفت و لم يعد فيها إلا هو و برج ايفل ..
لما عاد بعد دقائق انهال علي بالأسئلة يريد في دقيقة أن يعرف كل شيء عن الصرح العظيم :
ماما ، مماذا صنعوا هذا؟ صنعوه من الحديد يا ولدي
ماما ، من صنع هذا؟ صممه مهندس فرنسي اسمه كوستاف ايفل واشتغل على انجازه هو وفريقه من الحدادين يا ولدي
ماما ، لماذا صنعوا هذا؟ صنعوه خلال الثورة الصناعية ليثبتوا للعالم ان فرنسا دولة صناعية تجيد صناعة الحديد يا ولدي
ماما ، كيف اوصلوا الحديد هناك الى اعلى البرج ؟ صنعوه في عدة مراحل ، طابقا بعد الآخر يا ولدي

و تذكرت ، و كأن التاريخ يعيد نفسه ، حوارا مع والدي في باريس حول انبهاري بالمعمار الضخم و الرائع لمعظم البنايات القديمة ، معمار عظيم .. اسقف عالية .. عواميد ضخمة .. جمالية متناهية. وتذكرت انني سألت والدي نفس الأسئلة ولحسن حظي فقد كان والدي مهندسا وكان بإمكانه الإجابة على اسئلتي، وكان ايضا رجلا في منتهى الحكمة.

.. يا بنتي ، المهندسون في ذلك الزمن كانوا يشيدون من أجل الخلود، ليتركوا بصمة في الزمن .. كانوا يبنون من أجل التحدي ..فكانت كل بناية تشكل تحديا جديدا على المستوى التقني و كانت كل بناية تعتبر إضافة جديدة في علم الهندسة المعمارية .. و لذلك كانوا يشيدون بنايات استثنائية و عظيمة .. لأنهم كانوا يبنون من أجل العلم و من أجل الإنسانية (Ils ont construit pour la science et pour l’humanite).

أما اليوم يا بنتي، فالمهندسون يبنون من اجل المال ، لذلك فهم يبنون بنايات صغيرة بلا جمالية .. و يبنونها بسرعة، ويتفننون في ابتكار مواد بناء رخيصة .. و يبتكرون تقنيات بناء جديدة بتكلفة منخفضة .. اليوم البشرية تبني من اجل المال و الاقتصاد.
(maintenant on construit pour l’argent et pour l’economie).

لا انكر أن هذا الحوار مع والدي الذي لم يتجاوز بضع لحظات ، كان درسا يتجاوز لوحده سنواتي العشر في دراسات علوم الاقتصاد والمالية، و اعترف كم كنت محظوظة أن صحح والدي في حوار واحد سنوات من تعلم تقنيات تخفيض التكلفة وتقنيات التسويق .. و اعترف ان هذا الحوار ساهم في بناء فلسفتي في الحياة ..

ما قيمة المال إذا لم يكن مقترنا بالأخلاق .. ما قيمة الاقتصاد إذا لم يكن إضافة ايجابية في حياة البشرية ..

هذا الهوس الرأسمالي بالمال وبالارباح الذي اجتاح البشرية واستعبد ملايير البشر في نظام حياة لم يترك لهم مجالا للحياة الأسرية و لم يترك لهم مجالا لتربية الاطفال و لم يترك لهم وقتا للشعور بالسعادة.

هذا النظام الاقتصادي الذي تدعمه تقنيات الإشهار الشيطانية من اجل تسويق ملايين المنتوجات التافهة .. صناعة الموضة ، صناعة السيارات ، صناعة الهواتف الذكية .. اليست هذه احقر انواع العبودية المقنعة .. ان تقنع ملايير البشر ان تغيير خزانة الملابس مرتين في السنة و امتلاك اخر هاتف و آخر سيارة هو من الضروريات الاجتماعية .. أي غباء هذا الذي اجتاح الكوكب من اقصاه الى ادناه ..

هذا الهوس بالمال و بالتسويق الذي اتى على الاخضر واليابس وانهك الارض و السماء .. ولم يترك في ذاكرة التاريخ سوى الخراب.. أثقاب في الغلاف الجوي و محيطات من النفايات في قاع البحار وتلاشي للغابات و انقراض لأجناس الحيوانات ..

إلى اين أيتها الراسمالية المتوحشة ؟؟ كل هذا الخراب في البر والبحر ، وكل هذه الملايير من البشرية المنهكة و التعيسة .. كل هذا من اجل بضعة امبراطوريات يمتلكها أقلية قليلة من أثرياء العالم الذين يحتكرون مجمل الثروة العالمية .. كل هذا من أجل كمشة رجال كي تنضاف الى ملاييرهم بضعة ملايير اضافية و يتربعوا على عرش ترتيب اغنى رجال العالم ؟

لا احتاج ان اقول ان الوقت حان لنهاية حقبة الاستهلاك المفرط , ولا احتاج ان أقول لملايير البشر حول الارض ان يتحرروا من عبودية الرأسمال المتوحش ..

و لا احتاج ان أقول ان الثورة على هذا النظام الرأسمالي المفرط اصبح واجبا إنسانيا، بل ضرورة وجودية ..

لا احتاج أن اعلن الثورة، فقد اعلنها كورونا ..

اتمنى ان يكون كورونا قد ايقظ ملايير الغافلين و فتح اعينهم على فخ العبودية الاستهلاكية ، و اتمنى ان الحجر الصحي سيجعلهم ينخرطون طواعية في الثورة على نظام الاستهلاك المفرط و على المباديء الرخيصة للاقتصاد..

واحلم ، كما حلم مارتن لوتر كينغ بالكرامة و كما حلم نيلسون مانديلا بالحرية ، بثورة وعي عالمية تطال نظام العيش و نظام العمل و نظام الاستهلاك .. واحلم بنظام جدبد يرتكز على الانسانية و يمزق خيوط شبكة العنكبوت الاقتصادية .. نظام يضمن جودة اكثر في استعمال الوقت و الموارد .. نظام يقدس المنظومة الاخلاقية ويقدس الحق في السعادة كحق من حقوق الانسان.

 

تعليقات الزوار ( 1 )
  1. أعجبتني طريقتك الجميلة في الكتابة وتحليل الواقع باللغة العربية رغم لسانك الفرنسي الانجليزي. مزيدا من العطاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *