ثقافة وفن

بساطة الكريمي..وعقدنا نحن

كنت قد اقترحت على مخرج ال “إف ب إم” ادريس التباع أن أستضيفه، و استغرب ثم ابتسم. قال حينئذ بأنها ستكون أفضل هدية أقدمها بعفوية للراحل الكريمي رائد العفوية في الفكاهة، و بأن الفكرة و إن تأخرت إلا أنها قد تسهم في إسماع صوت فنان وهب الابتسامة لعشرات الآلاف من أبناء البلد في الأسواق و الحلقات و الحفلات.

اتصلت بمحمد بلحجام “الكريمي”، و تفاجأ بالدعوة و اعتذر بلباقة عن المشاركة. أفضى بأنه بحث لسنوات عن الإعلام، و حين عثر عليه اكتشف بأن البساطة هي مأواه الأول و الأخير.

ما قدمه Bruno De La Salle عن الفن الشفاهي، يسري مفعوله في فرنسا و لا يعنينا نحن في شيء. فنان الشارع عندنا، عاش على الدوام حبيس صمته لأنه لا يتقن الشكوى مثل الآخرين، و قلائل من ضمنهم الدكتور الشاب طارق الربح من نادوا على الدوام بالاهتمام بهؤلاء. طبعا لم ينتبه لدعوته أحد، و ظل المتعاقبون على صرف الدعم، يتناسون هذه الفئة و يثبتون بأن الجاهل بأمور الثقافة يعسر عليه أن يستوعب دور فنان الشارع. على عكس سكيتشاته الهزلية، و تطرقه لكل المواضيع مهما بلغت حساسيتها بأريحية كبيرة، كان الراحل الكريمي شخصا خجولا حين يتواصل مع الناس.

خلال اتصالي به تلعثم قليلا، و أفضى بصوت خافت بأنه فاته أن يستفيد من الإعلام الذي يستقبل نفس الوجوه، التي تجتر نفس البكائيات اعتمادا على نفس الكلمات، لتستفيد على الدوام من كل أشكال الدعم. أخبرني بأنه يفضل أن يعيش بعيدا عن الاستوديو و إن أغرم بحلقات الإف ب إم مع حسن بديدة و ابراهيم خاي. أنهينا الاتصال كما بدأناه بروح النكتة، ثم حل ڤيروس كورونا و فرض تلينا جميعا هيبته.
هل كان علي أن أقوم بمجهود أكبر للاقتراب منه و الإصغاء إليه و لهمومه؟ هل كان علي أن أذكر في هذا الركن بكل ما قدمه الكريمي و أمثاله ممن يهبون فرجة عفوية لآلاف المغاربة؟ هل كنت مقصرا في حق فناني الشارع الذين تعالت عليهم وزارة الثقافة على الدوام؟ لا أتوفر على جواب لكل هذه الأسئلة، لكني متيقن بالمقابل بأن علينا أن نخجل من طريقة رحيل كثيرين قدموا فنهم و لم يطلبوا سنتا واحدا من صناديقنا، بل و تجرأ بعض المترامين المتعالمين مؤخرا على تحفيز الوزارة الوصية لاستخلاص ضريبة من مداخيلهم. حقارة يبدع فيها بعضنا كثيرا، و استياء صامت من فناني الشارع لم نلتطقه للأسف الشديد، مثلما ألفنا عدم التقاط كثير من الإشارات المهمة الأخرى.
بعد الإفضاء بخبر رحيله، راج شريط فيديو للراحل يمتطي فيه دراجة نارية كانت وسيلة تنقله، يتكلم و يبتسم و يعيد الكمامة لمكانها الطبيعي و ينطلق.

انطلق فعلا و تركنا في حيرة نجتر خيبة أخرى، هو الذي لم ينتبه له التلفزيون يوما، و لم يهتم به أهل الثقافة ممن يحتاجون لدروس تقوية عاجلة. حادثة سير جعلتني أنتبه إلى أنني شخصيا أخطأت، حين أقدمت على منح رأسمال زمني كبير لبعض من أشخاص لا يستحقون، و ترك أسماء كوميدية شعبية في الهامش.

أنا آسف.. حاولت و أحاول أن أكون عادلا قدر المستطاع، لكني ضيعت في السابق وقتا كبيرا مع كائنات غير مكونة و غير موهوبة. ضيعت وقتا كبيرا مع مسؤولين غير مسؤولين، و مع بعض من منتسبين للسينما ممن لا يفقهون شيئا في السينما، و مع مرتزقة يقتاتون من مال الدعم. أنا آسف، و رحم الله الكريمي. بدون صراخ و بدون مزايدات و بدون خلق جدل فارغ، كسر طابوهات كثيرة، و تزيى بشخصيات مختلفة، و قلد أصواتا متعددة، و كتب بلسانه مئات السيناريوهات، و تناول كل المواضيع التي أراد، و انتزع الابتسامة من جمهوره الذي كان يقدم مقابلا ماليا بسيطا بعد الفرجة. لم نمنحه شيئا، و منح جمهوره الكثير. تمر أمام العين حركاته، و أتذكر تعبيراته البسيطة و روحه المرحة، و تلك القفشات التي يستقبلها المحبون لفنه بالقهقهات. عاش بسيطا، و لم يطلب لقاء وزير للثقافة أو مدير من من المدراء الذين تعاقبوا على مركزنا السينمائي، و لم يحتج لبلال مرميد ببرامجه، و لم يحفز النقاقيد ليكتبوا سطورا تافهة عن عروضه. ليذهب تقاعس المتقاعسين و المتعالمين، و مستنزفي الدعم للجحيم.

في ختام الركن، قد يسأل واحد من المتذاكين، من هو الراحل الكريمي؟ سأنصحه فقط باللجوء لليوتوب، و رغم بساطة الوسائل المعتمدة في التصوير، سيتعرف على الراحل الكريمي و على جمهوره. جمهوره الذي سانده و دعمه، يفوق عدده “جمهور” أعمال غبية مصورة و مدعمة يفخر مقترفوها بنسب المشاهدات العالية. بعد فوات الأوان، لا ينفع البكاء لأنه يتسبب فقط في جفاف العيون. وداعا الكريمي، و آسف على كل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *