ملفات

رأي: حكاية إبن الخطيب .. وأسئلة القضاء في المغرب!

يعيش المغرب في الآونة الأخيرة نقاشا سياسيا في جل القضايا تحت مظلة الإسلاميين بالمغرب، لتمويه النقاش وسط المجتمع، الذي أصابه الملل من جراء حساسية الحزب الحاكم المفرطة في طرح قضايا مختلفة دون أن تكون هناك سبل لحلول آنية، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الجدوى من مثل هكذا نقاش لا يجدي ولا ينفع ولاتجد فيه حلولا لقضايا الأمة إلا من رحم ربك، بل غالبا مايفضي إلى بديهيات تزكي ما هو قائم حينما تختم كل النقاشات بحل أشبه بمجموعة الحلول الفارغة في علم الرياضيات، وهي التي وضع لها رئيس الحكومة بن كيران أسما خاصا من مرجعيته سماه “عفا الله عما سلف”.

ونظرا لكون هذا النقاش امتد مؤخرا الى أهم القطاعات الرئيسية في البلاد والتي تقاس بها درجة الشفافية ويحضى برعاية ومراقبة خاصة من الدول الغربية، ومنظماتها الحقوقية، هو قطاع العدل التي أصبح من أهم المعضلات الشائكة بالمغرب والذي تسبب فساده في التراجع عن الإستثمار وبحسابات تافهة لاتراعى فيها مكانة المغاربة هوية ومجالا حيث قدم تقرير أوربي دراسة صادمة حول الرشوة في مرافق عديدة ومنها القضائية.

وهنا لن نخوض في مطالب الإصلاح وكيف تم إعداد مذكرات في الموضوع، ولا كيف تتوالى احتجاجات نادي القضاة، والبيانات المضادة لنفس الجسم في الودادية الحسنية، إنما نستنتج أيضا أن هذا الحراك لايمكن فصله عن الإهتمام الأمريكي بالقضاء في المغرب، فزادت من زيارة وفودها إلى الرباط، فالقوا قضاتها عروضا لنظرائهم المغاربة كما نصحوهم في مراكش بفضح الفساد، بل تم فتح أورشا لتكوينهم، وكيف أن أيام هذا التكوين ذاته كان يوازي اعتصام إبا يجو المرأة الأمازيغية التي تمرمدت في مشهد مؤلم أمام ابتدائية تزنيت وتجاهل الجهاز القضائي معاني لسانها وفضحت المسكوت عنه وما زالت ضجتها مستمرة.

وفي كل هذا يجب أن نعترف أن دور القضاء كان حاضرا في التغير الحاصل في شمال أفريقيا والذي صنعه كاشف الأوراق السرية المخبر وكليكس الذي إعتقلته الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أدى مهمته، وأسندت مهمة أخرى لزميله في الإستخبارات الأمريكية العميل إدوارد سندون، ولا ندري أي أوراق أخرى يمكن أن يستعملها هذا المخبر وتنتظر العالم، حين اكتشف فجأة أن أمريكا تتجسس على الجميع من حلفاء وأعداء.

الغريب في القضاء العربي والمغربي خاصة أنه غير مستقل ويخضع لتوجيه وإملاءات، وهو ما يجعله عرضة لمزيدات سياسية كما نشاهدها اليوم، وتطور اليوم ليصبح نزاعا معقدا، تتداخل فيه السياسية والمصالح وحقوق الإنسان، وإذا بحثنا في التاريخ لأسقطنا على زمن قضائنا اليوم صور أخرى من عهد ضعف وزراء العدل، بل سينضاف إليها خطاب تسييس القضاء، وإن كانت الصورة سابقة من نوعها في المغرب منذ الحكومات المتعاقبة، فإنها من جهة أخرى لاتعدو أن تكون تجريب مستورد من مصر، وكلنا نتذكر كيف أن الحملة الشرسة التي شنها الجهاز القضائي بـ “أم الدنيا” كانت هي السبب الرئيسي في الإطاحة بالرئيس الأسبق حسن مبارك، وكم يحاكى من مؤامرات داخل أجهزة الدول الإسلامية سببها ضعف العدالة وتسييسها.

وياليت استحضرنا حكاية المؤامرة ضد لسان الدين ابن الخطيب وزير بنو الأحمر بغرناطة، إذا بأعدائه ينفثون حوله سموما دونها سموم الأفاعي، ويكشرون له أنيابا أمضى من أنياب الأسد ومنهم القاضي النباهي الذي يخاف من شخصيته وأن شعوره بالضعف كان يجعله من مخاوف لاتنتهي من شخصه، وكان القاضي النباهي بالأندلس وهو بمثابة وزير العدل، وابن زمرك الوزير الذي عوض لسان الذين عندما رحل إلى فاس كرها يقضيان الليالي يلفقان الأكذوبة تلو الأخرى.

وضاقا بهذا الحديث يلقيان به في كل مجلس إلى ملك غرناطة، وكانا يرجوان أن يكون له في نفسه أثر، فيعمل على الإنتقام من لسان الدين ابن الخطيب، وكان كل رجائهما أن يشهدا مصرع وزير غرناطة القديم حتى يطمئنا أنهما تخلصا منه حقا، ولكن الغني بالله لم يكن يزيد على أن يسمع منهما ويحبذا ما يقولان.

إن الغرض من إدراج هذه الحكاية المستقاة من تاريخ الأندلس التأكيد على أن تسييس القضاء بغرناطة والصراع حول الحكم من منظور إيديولوجي هو سبب من أسباب انهيار الحكم في الأندلس، فلسان الدين بن الخطيب كان وزيرا وذا شأن عظيم لكن خصومه يريدون التخلص منه، وهو ما جعله يلتحق بتلمسان طالبا ود الملك عبد العزيز المريني، وعندما وضع الملك الغني بالله القاضي النباهي أمام الأمر الوقع لكي يجيبه عن سر حقده على ابن الخطيب، إنكمش في ذل أمامه يضحك شكله ويحمل منظره من الاستخفاف ومضى يقول متكلفا وقار العلماء ورزانة الشيوخ:

“إنني ياسيدي لأعلم من مخازيه ما يجعلني أومن بأن غضب الله قد حق عليه. كم له من مخالفات للشريعة تجعل دمه جبارا؟ وكم له في كتبه من أراء تناقض تعاليم الدين، أحصي أقل منها على علماء قبله فنفذ حكم الله فيهم، وأحرقت كتبهم حتى لاتفسد على الأمة ذنباها ولا تزيغ بأهوائها العقول. كان ابن الخطيب يا مولاي يناصر الزنادقة ويدافع عنهم، ويطعن في الأحكام الشرعية ويتقضها. كان الدين عنده هوى وأحكامه أهزوءة، كأنما كان يصور له غروره أنه يستطيع أن يطاول بآرائه الفاسدة وأفكاره العقيمة شريعة السماء، وكان لايتورع أن يلدغ بلسانه الخبيث حتى الملائكة والأنبياء. ما ظنك ياسيدي برجل درس على أبي زكرياء يحي بن هذيل، وتوتقت بينه وبينه الروابط والأسباب؟ وكان ابن هذيل آفة على العقول وداء ظهر الله منه البلاد والعباد”.

كان هذا الوصف كافيا لإقناع الأمير بأن يثبت عنه موجبات الزندقة، وكيف أنه دافع عن أنصاره أشبه إلى الحداثين اليوم ومنهم أبي العيش عندما سجن بآرائه، وكان من جملتها دخل على زوجته إثر طلاقها الثلاث زاعما أن النبئ أمره مشافهة بالاستمتاع بها وأطلق ابن الخطيب سراحه. ورأى الناس أن أبي العيش يطوف في المدينة بعد فعلته، فقالوا أن قاضي غرناطة حاد على تعاليم الإسلام وتهاون في أمر الدين.

وكتابه في المحبة الذي يقال عنه أنه سلك فيه مسلك الصوفية ما أقربه الى مذاهب الفلاسفة.

أخبار ملوك الأندلس والمغرب عرفت بها حكايات وأقاصيص وما حكاية القاضي النباهي وسلوكياته التي كتب عنها إبن الخطيب في كتابه: “خلع الرسن في وصف القاضي أبي الحسن”، أشبه اليوم إلى حكايات عن وزراء حكومة بن كيران الإسلاموية، وإلى منظري أفكارهم داخل تنظيم حركة التوحيد والإصلاح، والتي أصبحت تحشر أنفها في وقائع نشاز دفاعا عن أسلمة المجتمع، وهو ما سبقه فيه الفقهاء ورجال الدين في غرناطة، تلك العجوز التي إنفسحت لها الحياة وامتد بها الأجل بسبب مأساة مثل هؤلاء المتحجرين في عقولهم.

ويظل ابن الخطيب من رجال الدولة العظماء الذي مزق حجاب الصمت ضد المستبدين من الفقهاء والذين اسرفوا في الظلم والطغيان، فغدت عروشهم تقوض واحدا إثر آخر، تم غلب اليوم أهل الأندلس على أمرهم، وتذوب أشخاصهم اليوم في إسبانيا كما يذوب الملح في الماء.

القضاء، أيها السادة لايحتاج إلى مزيدات سياسية، والى وضع القوانين خارج إرادةالشعب، فالقضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية في كل أعراف الدول، وتسييس القضاء بهذا الشكل منزلق خطير لايذكرنا فقط بنزاهة قضاة المغرب عندما كانوا لايحصولون على أتعابهم من الخصوم، ولارواتب معينة من الدولة، وكانوا يحضون بكل تقدير واحترام داخل المجتمع، وتلك الخصوصية إختفت مابعد إستقلال المغرب، حيث غاب الضمير المهني أمام التسلط والإغراء والايدولوجيا.

وحتى من الحب ما أفسد القضاء ونماذج لحكاية عن قصص غرام القضاة ولعلى نموذج حكاية المرأة أبوعلي التي فضحت المستور في علاقتها مع قاضي خنيفرة، وتلكم قصة أخرى يرويها أهل الصحراء عن محامي أغرم بزوجة القاضي بكلميم…، وما خفي أعظم حيث ضاعت مصالح أفراد المجتمع، وتأسف الناس عن قضاء الإستعمار الذي أنصفهم أكثر من أبناءالمغربة. فهل نحتاج اليوم إلى خوصصة القضاء لتفئ الجهاز القضائي إلى نوادي للقضاة من الأمازيغ وعروبين وإسلاميين ويساريين لفك منازعات بين الأفراد والجماعات؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *