متابعات

تصاعد النزعات اليمينية .. والانهيار الأخير للأحزاب اليسارية في الغرب

انتخابات الرئاسة الأميركية للعام الجاري ليست عادية على الإطلاق، فمن كان يتوقع الصعود المذهل لدونالد ترامب والاستفزازات المحسوبة بدهاء من بيرني ساندرز؟!

في الحقيقة ليست الولايات المُتحدة الأميركية، المكان الوحيد الذي اتخذت فيه سياسة الديمقراطية الليبرالية، مُنعطفاً غير متوقع. هذا ما يقوله كريستيان كاريل في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية 3 مايو 2016، والذي أشار إلى مقال للكاتب بيير بريانسو نشرته صحيفة Politico Europe حول الانهيار الأخير للأحزاب اليسارية التقليدية في أوروبا.

حلل بريانسو الأسباب التي يُعزى إليها وصول هذه الأحزاب إلى الحضيض. فالوضع الاقتصادي الكئيب وتحدي الإرهاب وأزمات اللاجئين جميعها تمثل مُشكلات لم تلقَ إجابة مُتماسكة لدى زعماء أوروبا التقليديين، وعلى رأسهم جميعاً اليساريون. ونتيجة لذلك؛ بحسب قوله “يبدو اليسار الأوروبي، في كثير من الأحيان، منقسماً إلى معسكرين؛ أحدهما يخسر الانتخابات والآخر لا يبدو مُهتماً بالفوز بها”.

ومن الحقيقي بالقدر الكافي، أن الجناح اليميني الأوروبي يبدو متخبطاً أيضاً، وكما أشار الصحفي البريطاني فريدي جراي بصحيفة Spectator؛ فالمحافظون التقليديون كذلك في حالة من الفوضى، فقد كتب “حيثما تنظر، في بلد تلو الآخر، تجد قوميين يفوزون وبراغماتيين مُحافظين يفرون في ذعر”.

كان الانتصار المتحقق بيوم 25 أبريل لمُرشح حزب الحرية بالنمسا، نوربرت هوفر، والذي يحب حمل السلاح، آخر ما تحقق من سلسة مكاسب الشعبوية اليمينية الجديدة، والجيل الجديد الذي يضم ماريان لو بان بالجبهة الفرنسية القومية، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وزعيم حزب الاستقلال البريطاني نايغل فرج يثيرون الاستياء والحيرة لدى المحافظين القدامى.

ويلاحظ غراي أن بوريس جونسون، عمدة حزب المحافظين بلندن، قد بدأ في اتخاذ موقف “ترامب المترقب” فيستهدف جونسون تقويض منافسه والذي يعد تقنياً رئيسه بالحزب نفسه، وهو رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي يعمل حالياً على نحو يائس لدرء هزيمة كارثية في استفتاء من المقرر انعقاده الشهر المقبل، بشأن ما إن كان على بريطانيا البقاء في الاتحاد الأوروبي.

وما لم تكن قد تابعت الجدل بشأن هذا؛ يجدر بك أن تعرف أن جونسون يريد للمملكة المتحدة مغادرة الاتحاد الأوروبي، فيما يرغب كاميرون في بقائها بين صفوفه. وهذا الانقسام الذي تتزايد مرارته يمتد أثره إلى حزبهما، فالمُحافظون البريطانيون، تماماً مثلما هو حال الجمهوريين بالولايات المُتحدة –وبحسب تعبير غراي- “يمزقون أنفسهم”.

وحتى في خضم اشتداد الصراع السياسي؛ ثمة شعور بأن التقسيمات الأيديولوجية القديمة تنهار، فما زلنا نصنّف الساسة بكونهم إما ينتمون إلى “اليمين” أو “اليسار” عادة دون مُلاحظة أن ذلك التمييز يرجع تاريخه إلى الثورة الفرنسية، على الرغم من أن “المحافظ” دونالد ترامب، والذي قضى جزءاً كبيراً من حياته يغازل الديمقراطيين، لا يبدو مُطلقاً كشخص ينوي الحفاظ على الوضع الراهن. فهو متمرد عدواني، يخوض علانية الحرب حتى على حزبه عندما يطيح بمبادئه المقدسة المتمثلة في التجارة الحرة والحدود المفتوحة.

(وهو ما يساعد على الأرجح في تفسير السبب الذي ألمح إليه مُؤخراً المحافظ الأميركي المتشدد، تشارلز كوتش، بأن هيلاري كلينتون قد تكون رئيسة أفضل من دونالد ترامب؛ ولكن على كل حال فمنذ أن بدأت كلينتون مسارها كناشطة في حملة المرشّح الجمهوري، باري غولدووتر عام 1964، بدلت مواقفها عديداً من المرات، لدرجة أنه يصعب تحديد ما تؤمن به حقاً).

أما من جانب ترامب؛ فهو معجب بالدكتاتور الروسي فلاديمير بوتين – وهي نقطة الضعف التي يتقاسمها مع نظرائه الأوروبيين مثل فرج، وبان، وأوربان. بالنسبة لمحافظي القرن العشرين، كان الدفاع عن الحرية شرطاُ ومعتقداً لا غنى عنه، لكنه صار الآن مُجرد هامش.

في الواقع، يغازل بعض هؤلاء المحافظين صراحةً ود الاستبداد والعنصرية بطرق من شأنها أن تفزغ أسلافهم من الديمقراطيين المسيحيين، الذين ساعدوا في بناء الاتحاد الأوروبي في العقود التالية للحرب العالمية الثانية. وغني عن القول، إن هؤلاء المحافظين المؤيدين لأوروبا في الخمسينات والستينات كانوا مدفوعين بالوعي الذين كان جديداً آنذاك.

فقد أعرب أوربان صراحةً تفضيله لما يُدعى “الديمقراطية غير الليبرالية” وهي النمط الذي يُفترض أنه يتجسد في الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. إن أراد أوربان أن يقلص دور المؤسسات الديمقراطية في هنغاريا، فهذا من شأنه أن يُعد ثورة من اليمين، وليس دفاعاً محافظاً عن الوضع الراهن. وفي نفس الوقت؛ في خضم أزمة اللاجئين التي شهدت عشرات الآلاف من المسلمين يعبرون المجر، كان أوربان يتفاخر بانتمائه السياسي بوصفه لنفسه على أنه مدافعٌ عن “القيم المسيحية” في أوروبا، بينما الأوروبيون هم الآن أكثر علمانية من أي وقت مضى.

في الوقت نفسه، يصف ساندرز ذاته بأنه “اشتراكي ديمقراطي”، على الرغم من أنه لا هو ولا جمهوره يبدون وكأن لديهم فهم واضح لما يعنيه هذا المصطلح. فتاريخياً، كان الاشتراكيون هم الأشخاص الذين يعتقدون بأن الدولة يجب أن تملك سبل الإنتاج، أو على الأقل السيطرة على “الصروح الشامخة” للاقتصاد. وذلك يصعب مقارنته مع وعود ساندرز الغامضة بشأن التعليم الجامعي المجاني أو “تفكيك البنوك”، أو حبه للتشدق بالحديث عن مؤسسة الخدمات المالية العملاقة جولدمان ساكس التي لم يقترح أبداً تأميمها.

من المثير للسخرية أن ساندرز يتظاهر بارتداء عباءة الاشتراكية في اللحظة التي ينزعها نظراؤه الأوروبيين عن أنفسهم، هؤلاء الذين يتخذهم قدوة. ويشير بريانسو في مقالته عن الاستياء من اليسار الأوروبي قائلا “السياسيون مثل وزير الاقتصاد الاصلاحي الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالكاد يخفون ازدراءهم لنظام الحزب البيروقراطي، والذي فقدت فيه مفاهيم “اليمين” و”اليسار” التقليدية أهميتها.

وبالتزامن، يجد حزب العمال في بريطانيا نفسه متورطاً في الجدل حول تصريحات معادية لإسرائيل أدلى بها أشخاص بارزون من أعضائه– ويحمل بعضها إيحاءات واضحة معادية للسامية – وقد اضطر زعيم حزب العمال، جيرمي كوربين، إلى قبول تحقيق مستقل في الاتهامات الموجهة إلى حزبه بانتهاج التعصب. بالتأكيد لا شيء يظهر ابتعاد الحزب عن قيمه الأصلية الأممية أكثر من هذا .

الفضيحة اللاحقة بحزب العمل تشير إلى حالة الارتباك العام الذي نجد أنفسنا فيه الآن. كان القطبان الأيديولوجيان القديمان من يسار ويمين انعكاساً لواقعِ مجتمعي مهم، وللفجوة الجوهرية بين الطبقة الصناعية والزراعية العاملة؛ ولكن المجتمعات الغربية لم تعد مُنظمة على هذا النحو المباشر.

أعداد الأشخاص الذين يعملون على خطوط التجميع والمزارع تضاءل بشكل حاد وسيواصل تضائله، والحركة النقابية التي كانت بمثابة العمود الفقري للأحزاب السياسية اليسارية تلاشت، وأصبحت الصناعة تتجه نحو النخب الصغيرة المدربة تدريباً عالياً.

فأيهما إذا الممثل الأفضل لمبرمج جوجل.. اليسار أم اليمين؟ وماذا عن المزارع الذي يعتمد على الدعم الاتحادي؟ أو العامل الفائق المهارة بتجميع المعدات الطبية المتطورة؟ وهل الشخص الذي يعمل لدى بنك لإقراض الأموال يعد عضواً نِداً في الطبقة الرأسمالية الحاكمة؟

من الواضح أن الفوارق الطبقية لا تزال موجودة، ولكنها الآن أكثر تعقيداً مما كانت عليه. فتحديات السياسية الكبيرة اليوم – مثل زواج المثليين، أوضاع حياة السود، وإدماج المهاجرين المسلمين- في كثير من الأحيان تعود إلى مسألة الثقافة بنفس قدر صلتها بالعوامل الاقتصادية.

على مدى العقود القليلة الماضية، عرّف كلٌ من الديمقراطيين الأمريكيين وزعماء حزب العمل البريطاني أنفسهم كمدافعين عن الأقليات التي تنتجها المجتمعات المتعددة الثقافات على نحو متزايد – ليكتشفوا أن ناخبيهم الأساسيين القدامى، والطبقة العاملة البيضاء قد ابتعدت وحوّلت ولاءها إلى ترامب وفراج.

ولكن التشوش الفكري لهؤلاء الشعبويين الجدد، والذين تعزى شعبيتهم إلى النزعة القبلية أكثر مما ترجع إلى برامج متماسكة شعبية، يدفع المرء إلى التساؤل ما إذا كان هؤلاء سيخرجون حقاً بحلول أفضل.
ما نراه الآن في جميع أنحاء الغرب هو أن النظام السياسي ينساق بشكل كبير وراء هذه الحقائق الاجتماعية المعقدة. فكان أحد العناوين الرئيسية من مجلة نيويورك تايمز يتساءل “هل الولايات المتحدة مُستعدة لمشاركة طبقة سياسية وسطى؟”، والإجابة ليست يقينية على هذا التساؤل.

يقترح مركز فكري محافظ الخروج باسم جديد للرأسمالية (حظ سعيد لهم في ذلك!)، فيما دعت إحدى الجهات الأكاديمية إلى إنشاء حزب ديمقراطي اجتماعي أمريكي مما يوحي باستجابة بطابع القرن 19 لمشاكل القرن 21. ويقترح مفكرون آخرون تأسيس “حزب مبتكر” جديد بالكامل، بافتراض أن وادي السليكون سيجد الإجابات كلها، كما تشير الحالة المزرية للثقافة المدنية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر إلى عدم الحاجة إلى ترقبنا.

من الممكن أن تكون تلك رؤى على الطريق الصحيح، وبالطبع نحن نواجه نوعاً من إعادة تشكيل السياسة الجوهرية، كما نواجه كذلك تحولاً عميقاً في ميزان القوى الاجتماعية، وحتى الآن لا نرى إلى أين سيذهب بنا ذلك، ولكن هناك احتمال أكثر راديكالية أيضاً؛ وهو أن الديمقراطية الليبرالية الغربية تشهد نهاية للسياسة كما نعرفها. وحسب التشنّج الذي ينتاب النظام السياسي الحالي في الغرب، فربما لن يكون بمقدورنا استثناء ذلك الاحتمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *