متابعات | هام

تعرف على “البرنامج المرحلي” .. التيار الذي حلق شعر رأس فتاة بجامعة مكناس

لم تكن الجامعة المغربية، منذ استقلال البلد، مجرّد فضاءٍ لاكتساب المعارف ونيل الشهادات، فبين جدران كلياتها، كانت الأصوات ترتفع في الحلقيات بين الرفيق والأخ.. الكل يتحدث باسم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، لكن الاتحاد الذي انتهت مؤتمراته الناجحة عند رقم 16 نهاية السبعينيات لم ينجح في جمع شمل الفصائل التي تباعدت خطوط اللقاء بينها، فتحوّل العنف أكثر من مرة إلى لغة للحديث، وتحوّل الدم المراق إلى رسالة بأكثر من مدلول.

بين هذه الفصائل يبرز اسم  “النهج الديمقراطي القاعدي- البرنامج المرحلي”. فصيل تصدّر الأخبار طوال الأيام الماضية، بعد إقدام عناصر محسوبة عليه على حلق شعر وحاجبي نادلة بمقصف كلية العلوم في مدينة مكناس. واقعة أثارت استهجانًا واسعًا وذكّرت بواقعة مقتل طالب إسلامي قبل سنتين، اتُهمت فيها عناصر من الفصيل ذاته.

بيدَ أن “البرنامج المرحلي” ليس مجرّد تيار يستخدم العنف ووسائل أخرى لبلوغ مقاصده، فهو يختزل تجربة اليساريين الراديكاليين داخل أسوار الجامعة.. تجربة أرادت أن تكون الجامعة بداية لثورة شعبية على النظام القائم تحوّل المغرب إلى دولة ماركسية قوامها “هدم الطبقية وتقويض الرجعية والرأسمالية”، مع الإشارة إلى أن العنف كان ولا يزال سمة الكثير من الفصائل الأخرى داخل الجامعة المغربية وليس البرنامج المرحلي وحده.

تاريخ فصيل واجه الجميع

قصة تشكّل تيار البرنامج المرحلي تشوبها الكثير من البياضات، خاصة لقلة المراجع المكتوبة وكثرة الاعتراضات على المسار التاريخي بين أعضاء التيار. لكن الكل مجمع تقريبًا على أن المنبع كان تجربة طلبة “الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين” الذين انتظموا في غالبيهم داخل منظمات ماركسية لينينية من أهمها “إلى الأمام”، وهي حركة تعرّضت لحملة اعتقالات واسعة من السلطات المغربية، شملت الكثير من أعضائها داخل الجماعات، حيث كان الطلبة الجبهويون يسيطرون على مجمل هياكل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بعد نجاحهم في المؤتمر الـ15 عام 1972.

لا يُعرف بالضبط مؤسس الفصيل القاعدي، لكن الثابث أن عدة طلبة ماركسيين قرّروا نهاية السبعينيات إنشاء تجربة أطلقوا عليها “النهج الديمقراطي القاعدي” لإثبات الاستقلالية عن حركة إلى الأمام وكل التيارات الأخرى خارج الجامعة واعتماد العمل الميداني، معتبرين أن الحركة غيّرت مواقفها داخل السجون، وزاد من تقوية موقفهم كون أغلبية قيادات “إلى الأمام” كانت معتقلة، ومن ثمة بدأ الطلاق بين “القاعديين” و”إلى الأمام”.

شهد المؤتمر الـ16 عشر لـ”أوطم” عام 1979، الذي عرف وجود لائحة القاعديين للمرة الأولى، خلافات كثيرة بين الفصائل اليسارية التي كانت مهيمينة على الساحة الطلابية، ممّا ألقى بظلاله بعد ذلك بسنتين على المؤتمر الـ17 الذي توّقف لانسحاب فصيل طلابي. تصاعدت التناقضات واستفحلت الأزمة، فانبثقت تيارات جديدة بين القاعديين، أهمها حمل اسم “الكراس”، وهو اسم وثيقة ظهرت عام  1984 بعد وفاة طالبين أضربا عن الطعام.

تبنت وثيقة الكراس أهداف التنسيق مع بقية الفصائل اليسارية الأخرى لمواجهة ما أعلنته الدولة من إصلاح جامعي، وإعادة الارتباط بحركة إلى الأمام، والعمل إلى عقد مؤتمر استثنائي يتم فيه التوافق بين الفصائل، وقد تطوّر هذا التيار إلى فصيل فيما بعد، ويعرف جزء مهم الآن منه باسم طلبة اليسار التقدمي (تأسس عام 2011)، التابعين لحزب النهج الديمقراطي، فيما لا يزال طلبة آخرون يرفضون الانصهار مع الحزب ويصّرون على البقاء ضمن تيار “الكراس” القاعدي.

غير أن “الكراس” لم يجمع كل القاعديين، فقد ظهر جليًا وجود رفض كبير له، وأصدر قاعديون عام 1986 ورقة “البرنامج المرحلي”، تحوّلت فيما بعد إلى تيار قاعدي رفض التنسيق مع بقية الفصائل والارتباط بـ”إلى الأمام” وشدّد على المواجهة الشاملة في وجه الإصلاح الجامعي، كما ظهر تيار قاعدي آخر إثر صدور ورقة تنظيمية عام 1989 وحمل اسم “التقدميين” أو الممانعين، وهو تيار عارض “البرنامج المرحلي و”الكراس”، فيما صدرت أوراق تنظيمية عديدة فيما بعد، غالبيتها ارتبطت بالبرنامج المرحلي لكن وفق تصوّرات معيّنة.

خصائص البرنامج المرحلي

“البرنامج المرحلي تيار يتبنى نظرية بناء الأداة الثورية بشكل سري، غير أن توجيهات لينين ترى أن بناء الأداة موكولة للطبقة العاملة، في حين يبقى رفاق التيار منعزلين داخل الجامعة عن الشارع” تقول بشرى الشتواني، عضو سابق بالتيار، متحدثة عن أن تسمية البرنامج المرحلي تعود إلى “رغبته الارتباط بمرحلة سياسية معينة لمواجهة النظام عبر التعبئة لمعارك نقابية تدافع عن مكتسبات الطلبة والرقي بفكر الطلبة ومحاربة البيروقراطية، ومن وسائل ذلك العنف، لكن هذا الأخير فقط “لأجل الصراع من أجل البقاء وسط الساحة، سواء في وجه النظام أو التيارات المناوئة”.

يرى محمد المساوي، باحث مهتم بقضايا الجامعة أن نجاح “البرنامج المرحلي” في استقطاب الطلبة رغم ما قد يعدّ مواقف متطرفة من لدنه يعود إلى انحدار نشطائه في الغالب من أوساط اجتماعية فقيرة ومناطق جغرافية مهمشة، زيادة على استغلال نشطائه لعامل السن عند طلبة يكونون في فترة العنفوان والتمرد، ويزيد من قدرتهم الاستقطابية الوضع المتردي للجامعة المغربية والمشاكل التي تعاني منها. ويتابع المساوي أن أعضاء التيار يسيطرون على عدة مواقع جامعية نظرا لشراستهم واندافعهم الشديدين.

المواجهة مع الجميع

يحضر هذا التيار الراديكالي بقوة في جامعات بعيدة عن المركز كفاس ووجدة والرشيدية، ما يلاحظ أنه يخوض صراعات تصل إلى العنف مع بقية الفصائل الطلابية، فهو يرى أن الفصائل اليسارية ومعها التيارات القاعدية الأخرى خرجت عن الخط الثوري ويسميهم بالتحريفيين أو البيروقراطيين، ويرى أن الفصائل الإسلامية ظلامية، ويرى أن الحركة الأمازيغية “شوفينية”، بيد أنه يتعاطف نوعًا ما مع الطلبة الصحراويين لرواسب قديمة تخصّ مطلب تقرير المصير الذي دعمّه جزء من اليسار الراديكالي المغربي.

يتحدث منعم أوحتي، عضو سابق بفصيل الطلبة الطلعيين، وهو فصيل يساري، أن “البرنامج المرحلي” مارس عنفه الممنهح على كل الفصائل التقدمية، و حتى بقية التيارات القاعدية، فالكل في نظر الفصيل تحريفي والكل خائن، فالحقيقة التي انطلق منها الفصيل هي “عرقلة ما يمكن عرقلته في أفق العرقلة الشاملة، فالفوضى كل شيء و الهدف لا شيء”، يقول أوحتي، مستطردًا بأنه من “العادي عند التيار أن تنصب المحاكمات الشرعية للأطراف و الأفراد، فهو يظن أن الحكم البروليتاري قائم في الجامعة”.

الانقسام والتشرذم

تؤكد الشتواني أن البرنامج المرحلي تغيّر كثيرا في السنوات اللاحقة لنشأته وأضحى يعتمد العنف حلا أولا لكل الخلافات، وساهم في ذلك وقوع صراعات شخصية، ممّا أدى إلى وقوع انقسامات كثيرة، لم تسبب فقط ظهور انشقاقات قاعدية جديدة من داخله كالماويين والتروتسكيين وخط الجريدة، بل أضحى “البرنامج المرحلي” يشهد تيارات جديدة داخله ومن ذلك تيار “مواقع الصمود” الذي يحضر بقوة في جامعة مكناس، تتحدث الشتواني، فضلًا عن توترات بين أعضائه حسب موقع كل جامعة.

ويؤكد منعم أوحتي أن كل ورقة تنظيمية تصدر عن القاعديين تعرف ميلاد انشقاق عن التيار الأم وتعتبر التوجهات السابقة تحريفية وتعاديها بدرجات متفاوتة، متحدثًا عن أن إطلاق الحوار بين الفصائل الطلابية عام 1994 “عرّى التشرذم الفعلي للقاعديين”، إذ تعذر إيجاد محاور أوحد مع بقية الفصائل. ويزيد أوحتى أن تعدد الورقات والتيارات والانشقاقات لدى القاعديين عموما، والبرنامج المرحلي خصوصا، جعل التجربة القاعدية غير متجانسة بالمرة، زاد من ذلك تقديس النص الماركسي بزاوية أحادية غير محيّنة، دون أن ينفي ذلك مساهمة هذه التجربة في زخم النضالات الجامعية.

وفق تأكيدات الشتواني والمساوي، إن العديد من أعضاء “البرنامج المرحلي” يتخذون مسارات مغايرة تمامًا بعد خروجهم من الجامعة للخط الإيديولوجي الذي كانوا عليه، فمنهم من التحق بأحزاب سياسية تؤمن بالنظام السياسي وتدافع عنه، ومنهم من يلتحق بوظائف عمومية وينتهي من العمل السياسي، ومنهم من ينتمي إلى مجموعات يسارية تنشط خارج مدار الأحزاب.

وبين كل هذا فالمؤكد أن تجربة “البرنامج المرحلي” تولد داخل الجامعة وتنتهي داخلها، كأنها مرحلة في حياة الطالب وفقط، كما أن التجربة شكّلت، منذ ظهورها وإلى اليوم، مرآة لأزمات كثيرة: أزمة اليسار المغربي وسؤال الهوية، أزمة الجامعة المغربية، وأزمة الفصائل الطلابية المغربية التي عجزت عن تدبير ميثاق حقيقي يضمن للجامعة وظيفتها الأساسية في نشر العلم والتثقيف والوعي وتدبير الاختلافات بعيدًا عن لغة الدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *