المغرب الكبير

خلال رمضان.. عمالة الأطفال في الجزائر تنتعش

ظاهرة ليست بنت اليوم ولا البارحة، غير أنها تزدهر بشكل ملحوظ في الشهر الفضيل. “DW” تسلط الضوء من عين المكان على أطفال بعمر الزهور قذفتهم الدنيا وبعض الأهل من المدرسة إلى معمعة تحمل في طياتها أخطاراً وسلبيات لا تحصى.

     سوق الخضار في حي “باش جراح” الشعبي بالجزائر العاصمة، يرتفع صوت الطفل “علي” (15 عاماً) وهو يروج للبقدونس. ما أن توجهنا صوبه حتى ضاعف من معزوفته “بقدونس..بقدونس بأسعار مدهشة”، اعتقاداً منه أننا سنشتري منه بعض ما يعرضه.

تلعثم “علي” حين علم أننا من قطاع الإعلام، وأعتقد أن الأمر متعلق بمعاينة صحفية لوضع السوق في رمضان، ثم صرح: “آه..حتماً أنتم تبحثون عن ارتفاع أسعار الخضار، كل شيء غلا ثمنه، إلاّ هذه البقدونس..”. يسترسل “علي” في الحديث عن ماضيه القريب، فيقول: “تركت الدراسة منذ 2016 وأنا اليوم نادم وكلي يقين أنّ حياة شاقة تنتظرني لأحقق الثراء الذي أبحث عنه”.

يبرز الفتى البشوش كيف أن والدته حاولت ثنيه وبكل الطرق عن مقاطعته الدراسة، وسعت جاهدةً لإعادتة إلى حجرات الدرس، لكنها يئست وقبلت بالأمر الواقع. وهو يُعيد دنانير متبقية لأحد الزبائن، يقول: “في شهر رمضان تزداد مبيعاتي وهو فرصة لكسب بعض المال الإضافي”.

عصفورين بحجر واحد

“التجربة” التي اكتسبها “علي” في سوق الخضار، جعلته يعثر لطفلين آخرين وهما “خالد”و”هشام” على فرصتي عمل بالسوق، وهنا يوضح “خالد” (11 عاماً)  بقوله: “أشتغل كل يوم جمعة وسبت ببيع البقدونس والنعناع وغيرها لأستطيع الاستمرار في الدراسة، إضافة إلى اقتناء بعض الأغراض يرفض والدي شراءها لي”.

ويقاطعه زميله “هشام” بقوله: “حقيقة عملنا شاق جدّاً، وحتى واجباتي المدرسية، أتخلى عليها بسبب الإرهاق، لكن من حظنا أن الموسم التعليمي على وشك الانتهاء، وذاك يتزامن مع يومياتنا الرمضانية”.

بالنسبة، لــ “عامر” (اسم مستعار) مالك المحل، فإن تشغيل الطفل “علي” ورفاقه شبيه بمن يصطاد عصفورين بحجر واحد: “تشغيل بائعين صغار السن يجلب الزبائن تعاطفاً معهم، كما أنه يعد فرصة لتقدم مساعدات لهؤلاء الأطفال وإنقاذهم من الانحراف والوقوع في شباك عصابات، تستغلهم لتحقيق أهداف غير قانونية”.

وفي خضم تبريراته يزعم عامر أن “تشغيل هؤلاء الأطفال ليس جريمة كما يحاول تصويرها البعض، بالعكس ما أقوم به عمل خيري بمساعدة عائلات فقيرة”.

صغار بأحلام كبيرة

يقول التلميذ “موسى” باتو (12 عاماً)، ابن بلدة حمام ملوان بضاحية البليدة (47 كم جنوب العاصمة الجزائر): “أقصد كل صباح الحقول الزراعية المجاورة لسكنِنا بالمنطقة، لشراء النعناع والبقدونس المطلوبين بقوة في شهر رمضان وبيعهما على قارعة طريق بلدتي حمام ملوان طوال النهار”.

ويتابع: “بعد الانتهاء من الامتحانات في الصف، لا خيار لي سوى العمل في رمضان لإعالة عائلتي في مصاريف شهر رمضان وحتى شراء مقتنيات العيد”.

يقطع الفتى الحديث إلينا معتذراً، ويتوجه صوب صاحب مركبة وصلت لتوها إلى المكان، ليعرض عليه حزم البقدونس والنعناع، كان “موسى” يُزاحم ثلاثة رفاق له ويحاول كل منهم إقناع الزبون بجودة المنتوج وثمن البضاعة.

نلحظ بالمكان “سامية” (14 عاماً) وهي ترتدي ثيابًا بالية، تحاول المعنية تقليد زملائها الباعة الصغار، نقترب منها لكنها ترفض في البدء الحديث معنا.. تشترط علينا عدم تصويرها.

وحين اقتنعت بأننا لن نصورها، استرسلت في الحديث إلينا: “أنا أبيع الخبز التقليدي لمساعدة أمي في مصاريف البيت كون والدي مريض ومقعد.. وأنا أكبر إخوتي الثلاثة”. وتتابع: “أدخر بعض المال لسد حاجياتي المدرسية خلال الموسم القادم” ثم تذكر مرض والدها الذي نجا بأعجوبة من حادث سير، وتقول إنه “كان لا يحب أن نشتغل مثل أبناء البلدة، غير أن مرضه جعلني أرافق أبناء الحي في بيع الخبز والبقدونس والنعناع”.

وعن دراستها توضح: “نحن في فترة امتحانات، أما في الموسم كله كنت اضطر إلى التغيّب في فترات مسائية من أجل العمل لكني لن أفرط في مستقبلي الدراسي، خاصة وأن والدي يوصيني دائما بالتعليم، لأنه سيُؤمّن مستقبلي كما أمّن مستقبل الكثيرين”.

أرقام مخيفة

في الجزائر تشتغل الشبكة المدنية للدفاع عن حقوق الطفل “ندى” بالتنسيق مع وزارة التضامن، بشأن إعداد مخطط يتعلق بمكافحة عمالة الأطفال والتسوّل. ومن المأمول أن يقدم البرنامج المشترك حلولاً لظاهرة تشغيل الأطفال في المجتمع الجزائري.

وأكد رئيس شبكة “ندى”، عبد الرحمان عرعار، أن أرقام استغلال الأطفال في مجال الشغل بالجزائر، بلغت خلال العام المنصرم 4.890 طفلاً تتراوح أعمارهم ما بين الـ 10 سنوات والـ16 سنة، وقعوا ضحايا سوء معاملة وقضايا تخص عمالة الأطفال، مشيراً إلى أن الظاهرة أصبحت تأخذ أبعاداً مخيفة.

وتبيّن دراسة حديثة أعدتها الشبكة على مستوى 5 ضواحٍ كبرى بالجزائر، أن 13.2 بالمئة من الأطفال العاملين في الجزائر تتراوح أعمارهم بين 6 و10 سنوات. وتشير الدراسة إلى أن نسبة العمالة وسط الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 11 إلى 14 سنة تصل حتى 31.2 بالمئة، لكن هذه النسبة ترتفع إلى غاية الـ 55.6 بالمئة لدى الأطفال الذين يتراوح عمرهم بين 15 و18 سنة.  وتوضح الدراسة ذاتها أن 77 بالمئة من الأطفال العاملين من الذكور.

القانون صارم ولكن..

وحذّر عرعار العائلات التي ترسل أبنائها إلى الشغل خلال رمضان والعطل الصيفية، من مختلف المخاطر التي تحدق ببراعمهم. وعن الحماية القانونية، تابع عرعار أن التشريع الجزائري صارم في قضايا الطفولة، وأن المشكل يكمن في التطبيق الميداني، وشدد على ضرورة مراجعة التنسيق بين مختلف الأطراف الفاعلة والجهات المعنية بخصوص الإجراءات المتخذة في التصدي لظاهرة عمالة الأطفال.

ودعا الناشط الحقوقي ذاته إلى “الردع دون إهمال دور الوقاية في توعية المجتمع بخطورة العنف ضد الأطفال وضرورة مكافحته.”

“مخاطر جمة”

وبدورها، حذّرت الأخصائية الاجتماعية، أمينة حريش، من تنامي الاعتداءات على الأطفال الذين يشتغلون في الشهر الفضيل والعطلة الصيفية، مرجعة استفحال هذه الظاهرة إلى غياب الوعي لدى الأسر وحرمانها الأطفال حقهم في الذهاب إلى المدرسة وعيش مراحل الطفولة، وأعربت عن أسفها لوجود أسر جزائرية هدفها التحصيل المادي على حساب أبنائها.

وقالت المتحدثة إن “بعض العائلات تجبر أبناءها على بيع الخبز في الطرقات أو بيع ما تحتاجه الأسرة في رمضان متجاهلين بذلك خطورة الوضع على صحة الأطفال، ومدى تعرضهم لمخاطر الطرقات وأشعة الشمس.” وأضافت “أن التأثير السلبي على شخصية الطفل واضح، من خلال احتكاكه بأشخاص غرباء يكبرونه سناً مما يجعله عرضه لاكتساب صفات وسلوكيات خطيرة.”

ودقّت ناقوس الخطر للحد من الظاهرة، داعيةً إلى “التوعية والرجوع إلى العائلة التقليدية، التي كانت تسعى لزرع القيم وتربية الأبناء والتواصل معهم أكثر من السعي فقط لتلبية الحاجيات المادية من ضروريات وكماليات”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *