مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -5-

الحلقة الخامسة:

سُورة الفاتحة

طعَامُنا في المعتقل لُقمة من الأرز كل ليلة، ويا ليتنا نأكلها هانئين. قبل موعد الطعام لابد أن يستمع السجانون للأخبار في المذياع. أخبار محطتهم ثم أخبار الإذاعة الوطنية بعد ذلك. تُعكّر الأخبار أمزجتهم عندما تكون سيئة. إذا جاء في نشرة الأخبار أنهم قتلوا كذا وأسروا كذا، فإنهم يمرحون، وإذا سمعوا دون ذلك فإن حصّة من التعذيب تنتظرنا نحن الذين بُرمِجنا أن نأكل لقمة من الأرز كل ليلة، وننتظر لقمة الموعد المقبل بعد 24 ساعة.

مرارة العيش أسيرا لا يعرفها سوى رجل قضى جزءًا مهما من عمره مقيدا بقوانين المعتقل، وَعْدِّي يواصل الحكي عن تجربته المريرة التي عاشها ولم يسمع منها مثلنا:

من بين القائمين علينا رجل أسمر من أصل موريطاني ينادونه مسعود. لا يرى شيئا بعينه اليُسرى. كانت مهمته أن يصفعنا كل ليلة ونحن نصطف لأخذ تلك اللقمة من الطبّاخ. ليث الأمر يتوقف عند صفعات مسعود التي ألفتها وجوهنا وتأقلمت معها، بل يقف قُربهُ رجل ينادونه ولد الشيخ، يرتدي في أغلب الأوقات ــ خاصة بعد سماع الأخبار غير المفرحة ــ جلبابا رماديا بقِبٍّ كبير.

يملأ ولد الشيخ قبّ جلبابه بالرمل، ويقف قرب الباب إلى جانب مسعود الموريتاني. ما أن يمر الأسير بمحاذاته حاملا الصّحَين الذي به ملعقة الرّز، حتى يصفعه مسعود أولا، ثم يتناول ولد الشيخ من قبه بعض الرمل، فينثره كالتوابل في طعامك معلقا:

ـ كُلْ! هذا قليل من فُوسفاط بوكراع.

بعد أن يفعل ذلك مع جميع الأسرى يأخذ “بيرية” يضعها على رأسه. يتجه إلى مكان يراه فيه الجميع ويبدأ في إصدار نحنحة كتلك التي يصدرها من يريد أن يخطب في الناس، مُقلّدا في ذلك الحسن الثاني رحمه الله:

” شعبي العزيز.. أَعِدُكَ بغَدٍ مُشرق. غدك يا شعبي كله الذهب والفوسفاط”..

 يردد جملا كثيرة إلى أن يبدأ الحُرّاس في القهقهة، ثم يتناول ما تبقّى من رمل في قب جلبابه وينثره علينا عشوائيا وهو يقول:

“هَاكُو فُوسفاط بوكراع، وها حوت وادي الذهب لّي كايْوَاعْدْكُوم به الماليك ديالكوم”.

أيام كثيرة لا نعرف ماذا سمعوا في ذلك الجهاز العجيب الذي يتحكم في أمزجتهم وتصرّفاتهم، لكنهم فقدوا صوابهم وبدؤوا يضربوننا بالتناوب دون توقف ليلة كاملة باستعمال عِصِي وأسلاك كهربائية مبرُومة.

من الحُرّاس الذين لا أستطيع نسيان ملامحهم التي وُشمَت بذاكرتي إلى جانب مسعود وولد الشيخ، هناك أعرج يُدعى هارون، جُرح في معركة أمكالا، وآخر اسمه تَاغي. وكان بالفعل طاغية شديدا على الأسرى العُزّل.

 كان لا يستطيع أن ينحني بسبب كسر في ظهره في نفس المعركة أيضا. يضرب الأسرى بمقبض الفأس أو بمقبض البالة. يأتي إليك أول مرة فيسألك:

ـ هل تُصلّي؟

ـ نَعم!

ـ اقرأ عليّ الفاتحة لأسمعك.

وتبدأ في الاستعراض كطفل في المسيد. تعتقد أن ذلك القرآن قد يُليّن قَلبَه. يستمع إليك في اهتمام والآيات تُتلى كفقيه طاعن في العلم والفقه. لما تصل آية ” مَلِكِ يوم الدّين” يضربك بمقبض “البالة” على أي جزء من جسمك دون اكتراث وهو يصرخ:

ـ”تْفُو.. حتّى الصلاة دخلتُو فيها الماليك”.

ولا تملك سوى أن تتألم وتُردّد “ربِّي إنِي قَدْ مَسَنِي الضُر وأَنتَ أَرْحَم الرَاحِمِين”. تُردّد ذلك وهو يهوي عليك بالعصى الغليظة دون شفقة.

مرة قيل ذلك لأحد الأسرى الجدد. فلما نُوديَ عليه من طرف تاغي هذا، فكّر أن يستعمل بعض الكذب الأبيض لعله ينجو بجلده من مُبرِحِ الضرب وفُحشِ الكلام. رماه بالسؤال المكرور:

ـ هل تُصلّي؟

ـ لا.

ـ ألا تحفظ سورة الفاتحة؟

ـ لا. ولا آية واحدة، وما جلستُ قَط على حصير المسيد.

ضربهُ بمقبض البالة على رأسه صارخا:

ـ ” تفُو.. أنتم المْرَارْكَة يهود. بْنِي جْوِيفْ، لا تصلون ولا تعرفون الله”.

ومن وقتها كان الأسرى يقرؤون الفاتحة كلما طلب التاغي ذلك، يتحملون ضرباته وهم يواصلون الآيات المتبقية من سُورة يتمنون يوما أن يقرؤوها على روحه. لكن عُمر السجان طويل كلسانه ويده.

ماء المعتقل مالح متسخ، فالأواني المخصّصة للأسرى كانت عبارة عن براميل متسخة بالزيت والوقود. كنت أعتقد أن وصف “يُقطّع الأمعاء” لفظ مبالغ فيه قبل أن ألج هذا المعتقل، لكني لما شربت من مياه المعتقل في حالات العطش الشديد شعرت بأمعائي تتقطع بالفعل. خاصة وأن هذا الماء مرتبط بجوع شديد وحر لا يُطاق.

وبسبب هذه الضرب والجوع والماء المالح الملوث بالنفط، سنفقد أوّل أسير ينتقل إلى دار الحق، ليتركنا هنا في دار الباطل المُضاعَف.

كان مدنيا، لا أذكر اسمه. يشتغل سائقا لشاحنة في ملكية رجل من دكالة، وكان رفقته ابن مالك تلك الآلية جاءَا معا، واعتقلا معا. ما أذكره أن مرافق السائق اسمه عبد الفتاح..

بحسب ما حكاه لنا قبل وفاته فإن رجال الدرك أوقفوه بأيت ملول قُبيل المسيرة الخضراء. أمروه أن يُفرغ البضاعة التي تحملها الشاحنة التي كان يسوقها، وأن يعطيهم معلومات مالك الشاحنة ليتصلوا به ليأخذ بضاعته، فالمخزن يُريد هذه الشاحنة وسائقها لخدمة الوطن.

أمروه بعدها أن يشارك في المسيرة الخضراء بحمل الأفراد وبعض المؤن. بعد ذلك ألحقوه وشاحنته بالجيش لنقل البضائع والمواد الغذائية بسبب قلة الشاحنات العسكرية أمام الأحداث التي استجدّت.

بعد أن هدأت الأمور قليلا، جاء قرار بعودتهم إلى أُسرهم بعد هذه الخدمة الوطنية، لكنهم لم يصلوا إلى أبنائهم الذين كانوا ينتظرنهم بحُرقة. خاصّة وأن كل الذين شاركوا في المسيرة قد عادوا. نصب لهم الانفصاليون كمينا في طريق الزاك. مات منهم من مات وتم أسر ثمانية واقتيادهم إلى الحُفر التي كُنّا فيها أولا، ثم بعد ذلك إلى المعتقلات الجزائرية.

مرارة الفقد لا تطاق، خاصّة عندما تُفكّر في أطفال صغار ينتظرون أباً أن يعود إليهم، يحمل حلويات أو فواكه جافة، أو على الأقل أن يعود ولو بيدين فارغتين، المهم أن يعود. لكن امنيات الصّغار لم تخترق جدار السماء الأصم وتاهت بين السماء والأرض. التهمت الصحراء الأب المُنتظَر وغدَت ذكراه توقظ الشجون.

لقد ذكرت فيما مضى أن موريتانيا كان ضمن السجّانين الأجلاف، وفاتني أن أذكر أن ضمن الأسرى موريتانيين أيضا. ولم يكن السجّان يعطف على ابن بلده أبدا فالعبرة بالولاء. وأذكر أنه بعد أيام قليلة على موت السائق أسير الزاك حتى نودِي على بعض الأقوياء منّا لتفريغ شاحنة تموين.

كان بين المنادَى عليهم موريتاني. قبل الانتهاء من تفريغ الحمولة اختلس علبة سردين، فتحها بسرعة والتهمها وأخفى العلبة الفارغة في رمل المعتقل دون أن يفطن به أحد. ربما أحس بالشبع وبعض السعادة، وهو يزدرد قطع السردين المالح بالفلفل الحار.

بعد ساعة أو أقل فطنوا إلى أن علبة سردين واحدة ناقصة. فأعلنوا حالة طوارئ في المعتقل كلّه. لم يكتفوا بجمع الشبان الذين شاركوا في إفراغ شاحنة المَؤونة ، بل نُوديَ على جميع من كان في ذلك المعتقل عن بُكرة أبيه!

طَلب عْوِمير ولد علي بويا أن يصطف الجميع، وطلب من مرافق له أن يبدأ مهمته في كشف هذا السارق الذي تحدّى القوانين وظفر بعلبة سردين كاملة.

كان مُرافقه مُتخصصا في الشم. ذكرّني المنظر بفقيه المسيد الذي يُكلّف صبيا ليعرف الذي ضرط أثناء التلقين والحفظ. حانت مني ابتسامة أنستني قليلا هول الموقف. كان يأمر أي أسير أن يفتح فمه فيقترب منه بأنفه يشم رائحة زفيره ككلب شرطة. فعل ذلك مع جميع الأسرى فجأةً عاد إلى ذلك الموريطاني وجرّه من الصّف نحو عويمير ليؤكد له:

ــ هذا هو الكلب الذي سرق علبة السردين.

جرّدوه من ملابسه أمام الأسرى. ربطوا يديه ورجله وتناوبوا عليه ضربا. كانوا يضربونه أنّى شاؤوا. كان ذلك في شهر مارس والليل في المعتقل يكون باردا. ظلوا يضربونه طوال الليل إلى أن أُغمي عليه. استغلوا وقت الإغماء ليأخذوا استراحة في انتظار أن يستفيق. ولما عاد إليه وعيهُ وبدأ في الأنين من الألم استأنفوا حفلة الضّرب بالسياط.

كان الموريتاني أسود اللون، فأصبح جسده بقعا من اللون الأزرق والأحمر. وفي الصباح شنّف عويمير مسامعنا بخُطبة بثراء عن العفة والشرف والأمانة! وهم الذين يسرقون المساعدات الدولية ويعيدون بيعها في الأسواق السوداء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *