مجتمع

ربع قرن في سجون البوليساريو.. عدي عليلوش يروي حكايته -9-

الحلقة التاسعة:

حُرُوف من الفحم

سلّم لي عْدّي مجموعة من الأوراق التي كتبها بأسلوبه البسيط عن ذكرياته المريرة، استعنت بها رفقة التسجيلات لأكتب هذه الصفحات، نصوص كتبها بالدارجة والأمازيغية والقليل من الفصحى دون ترتيب للأحداث التي عاشها هناك بالأسر..

 وأثناءَ جلساتنا المتكررة،  كلما سألته عن مصدر معلومة أدلى بها يقول لي قرأتها في جريدة كذا، أو في كتاب كذا. فسألته عن كيفية تعلمه القراءة والكتابة وهو الذي أقَرّ في بداية حديثنا أنه كان لا يقرأ ولا يكتب قبل الأسر، والحروف كانت بالنسبة إليه كتمائم الدجّالين والمشعوذين. فقال:

ـ سبق لي أن ذكرتُ اسم أسير اسمه بغدادي حميد. كان هذا الرجل متعلما، وكنت أنا وإشو وعمرو لحسن وسليمان بباهي بنفس الغرفة لا نفرق بين الألف ومضرب الطبل. كنا وقتها بنفس الغرفة منذ سنة 1976. كانت لنا رغبة كبيرة في التعلم، وكم كانت أمنيتي أن آخد صفحة من كتاب ما أو جريدة وأعرف ما بها من أولها إلى آخرها.

 منيت نفسي أن يأتي يوم أستطيع فيه أن أكتب رسائل لأهلي وأقرأ أجوبتهم دون أن أضطر دائما إلى أن يشاركني طرف ثالث الأخبار والأسرار الصّغيرة. سيكون الأمر جميلا. تكتب لنفسك وتقرأ، دون أن تتوسل كل مرة لفقيه الدوّار، أو لزميل متعجرف يقرأ لك ويفشي أسرارك البسيطة للزملاء.

طلبنا من بغدادي أن يعلّمنا أَلِفٌ بَاءٌ على الأرض. أن يخط بأصبعه الحروف على الرمل ونفعل مثله. اقترح علينا أن نجلب بعض الخشب ونحرقه ثم يعلمنا على الحائط بدل الأرض. سرقنا خلسة بعض الصّفائح الخشبية من صناديق الخضر، حرقناها في المرحاض حتى تفحمت وغدت مثل الطبشور، وإن كان أسود إلا أن رغبتنا في التعلم تُبَدّل في أعيننا لون الفحم ليغدو بألوان قوس قزح الزهية.

بدأ أستاذنا حميد يعلمنا الحروف الأبجدية، طريقة كتابتها وكيفية نُطقها. كان يعلمنا في أوقات القيلولة وبداية الليل. مرة دخل علينا القبطان الطّاهري ووجدنا مُصْطَفّين نُحملق في ذلك الرجل الذي يعلمنا كيف نكتب الحروف والأرقام، وكيف نرصّ رموزا مع بعضها لتعطينا كلمات ذات معانٍ. وجد يدي معلمنا ملطخة كميكانيكي يفكك أجزاء سيارة. أعجبه إصرارنا على التعلم بتلك الأدوات البدائية، فوعدنا أن يزودنا بسبورة من الكارتون، وبعض قطع الطباشير التي يتوفر عليها في غرفته، شريطة أن يسمح القبطان الجزائري بذلك.

لما جاء المسؤول الجزائري أخبره الطّاهري برغبتنا في التعلم، وحاجتنا للمساعدة من أجل ذلك فرفض. أجابه بأن هؤلاء الأسرى يوجدون في هذا المكان للعقاب وليس لطلب العلم.

توقفنا عن تعلم الحروف والأرقام مدة أسبوع، سيما وأن معلمنا خشي أن تنزل عليه إدارة المعتقل عقوبة إضافية. لكننا توكلنا على الله، واستأنفنا جلسات التعلم بعد انقضاء الأسبوع.

عندما جاء المسؤول الجزائري في المرة المقبلة، فاتحه القبطان الطّاهري في موضوع التعلم مرة أخرى. اقنعه أن هؤلاء الأسرى أغلبهم أمي لا يفك شفرة الأرقام والأعداد، وأن مسألة تعلمهم لن تؤثر في السير العادي للحياة داخل هذا المكان..

قد يكون يومها في مزاج رائق، المهم أنه وافق على تعلمنا، وجاءنا الطاهري يحمل إلينا دفترا وقلما لكل متعلم وسبورة وقطعا من الطباشير. فاستبدلنا لون الفحم الأسود باللون الأبيض الذي يغري بالقراءة.

كان عددنا سبعة، ثم بلغ 10. بدأت مطالبنا بالحصول على اللوازم تزداد، وبدل معلم واحد أصبح لنا معلمون عديدون، بعد أيام بدأ عدد الراغبين في التعلم يزداد، خاصة مع تنوع المواد من عربية وفرنسية وحساب. حتى الذين تعلموا قبل أسرهم يصرون على الاتحاق بنا لملء الفراغ وتمضية الساعات الطويلة داخل المعتقل. هناك من استغل ذلك في حفظ القرآن الكريم كاملا.  بدأ التجمع يكبر وبدأت المشاكل تظهر، فدخلنا في دوامة من المواجهات مع سلطات المعتقل، إلى أن تم منع ذلك منعا مطلقا مع تهديد المعلمين وكل من يساعد الأسرى في تعلم حروف قد تنفعهم يوما.

سنة 1977 صدر قرار يسمح بتعلم الأسرى والمساجين فعدنا إلى جلساتنا التي تنظمت أكثر،  بعد سنة من ذلك أصدر الرئيس بومديان قرارا آخر يسمح بتخصيص ميزانية لكل شخص أجنبي دخل التراب الجزائري، سواء كان زعيما أو معارضا أو مرتزقا أو ارهابيا. جعل من الجزائر قبلة لكل هارب حسب شروط تصب في مصلحة بلده، إذ جعل من هؤلاء رأسمال يضغط بها على الدول المجاورة، لتسخيرهم مستقبلا في اعمال ارهابية أو تخريبية وغير ذلك. أرادوا أن يُقحموننا في نفس الفئة ما دمنا نستفيد من ميزانية للتعلم، فأخبرناهم بأننا غير الذين يتحدثون عنهم. نحن لم نلتحق بهذا البلد بمحض إرادتنا. نحن أسرى حرب وحدتنا الترابية، وأن هذا الوضع لن يغير من موقفنا بأن الصحراء مغربية، وأنه من أجل ذلك نحن هنا.

استمر تعلمنا، ومع توالي الأيام نستطيع قراءة الكلمات والنصوص باللغتين العربية والفرنسية، إلى أن توفي معلم الفرنسية عزيز حميد سنة 1984 رحمه الله تعالى..

 كان رجلا صبورا مثابرا، يتحمل بلاهتنا وقلة علمنا، ويعاملنا بحب. توقفنا كثيرا حزنا على رحيله. تذكرنا ابتسامته الجميلة وفرحه الطفولي عندما يسمع شخصا كان قبل شهور أميا، وها هو الآن يقرأ النصوص بسلاسة. لذلك فكرنا في أن توقفنا عن المشوار الذي بدأناه معا قد يضر روحه النقية الطاهرة هناك في السماء، فاقتنعنا أن أجمل طريقة للترحم عليه هي مواصله عمله والتعلم بجد.

 استمرت قافلة رغبتنا في التعلم بدونه ثلاث سنوات، إذ تم سنة 1987 إطلاق سراح دفعة من الأسرى، وكان عددهم مئة وخمسون شخصا، ومن سوء حظنا أن تلك الدفعة ضمت ثلاثة معلمين من الذين كرّسوا حياتهم في الأسر لتعليمنا، فتوقفت تلك العملية بشكل نهائي.

 كان تعلمنا حافزا لنا في الكثير من المحطات، أول فواكهه اجتماعنا اليومي وتوحيد كلمتنا في أمور عديدة، منذ بداية تلك العملية بأساليب بدائية إلى أن بدأنا نفك شفرة الكلمات والنصوص. تعلمنا جعلنا نجتمع، نتداول، نتعارف وتتلاقح ثقافاتنا، غيّر نظرتنا لأمور كثيرة، قرّبَ نظراتنا لقضايانا المصيرية.

 ففي أبريل من سنة 1978، تفتقت مخيلة مسؤولي الجزائر بتصوير فيلم عن البوليزاريو. لا أذكر قصة الفيلم ولا حبكته بالضبط، لكنني أتذكر أن الهدف كان تقديم البوليزاريو للعالم في منتوج سينمائي. قاموا بملء ساحة المعتقل الكبيرة بالرمل لصناعة ديكور يشبه الصحراء. جلبوا عسكرين وألبسوهم زي البوليزاريو، وتمت المناداة علينا للتمثيل في الفيلم كأسرى. أرغمونا على الخروج إلى تلك الساحة بكل وسائل القمع المتاحة لديهم. بعد ذلك رفعوا قطعة ثوب اتخذوها علما للبوليزاريو. أمرونا أن نقف لتحية هذا العلم. ثارت ثائرتنا، وأخبرناهم أننا لن نقف لهذا الثوب ولو على جثتنا.

دفعني المسؤول ، كما دفع إيشو وْعمر وبباهي، فقد كنا قربه وقتها وسَمِعَنا نؤكد رفضنا للأمر :

“واش رْبّكم محابْسْ عندنا وكَاتْعْنتُو علينا.

غضب غضبا شديدا. أمر العسكر بتركيب سكاكين الكلاش في مقدمة أسلحتهم النارية. أحاط الحراس بالأسرى ثم قال لهم:

ــ ملّي نعطي الأمر، طعنو رْبّهُم.

لقد آمنّا عندما رأينا تلك القطعة من الثوب أن الوقوف لها إهانة كبيرة لكل الشهور التي قضيناها هنا، لجيشنا العظيم الذي ننتمي إليه، لأهلنا الذين شاخوا من انتظارنا، لوطننا الذي رُحّلنا منه قسرا ونحن ندافع عن جزء منه، ولم تلن مواقفنا رغم التهديد والوعيد وحرماننا من الطعام. لما اقترب مغيب الشمس بادر الممثلون والتقنيون إلى حمل آلاتهم قاصدين وجهة ما.

قال مسؤول المعتقل لليوتنان أورحو:

ـ أنت يا دين الكلب من حرضهم علينا.

ـ أنا أسير مثلهم ولا سلطة لي على أحد.

ـ سيرحل هؤلاء الضيوف بعد حين، وسيكون لدي الوقت الكافي لأعذبكم كما أشتهي.

لم يقدموا لنا العشاء في ذلك المساء، مع ذلك أحسسنا بالشبع، شعرنا أننا قدمنا لوطننا شيئا فأشعرنا ذلك ببعض الزهو.

في الليل تداولنا فيما بيننا على عدم تناول فطور الصباح أيضا، أن نخوض إضرابا عن الطعام، وأن تكون مطالبنا حضور مسؤول كبير لإخباره بكل ما نعانيه. نحن أسرى حرب ولا يحق لهم إجبارنا على تحية رمز من رموز دولة ذات سيادة، فكيف نحيي رمز عصابة.

اتفقنا أن نلج مطعم المعتقل في الصباح صامتين، لا نأكل طعاما ولا نكلم إنسيا. لا نصرح بصاحب الفكرة وأن نتحمل جميعا مسؤولية ما يحدث وما سيحدث.

صباحا.. سبقنا ليوتنان أورحو للمطعم للوقوف على التنظيم واقتفينا أثره. جلسنا جميعنا في أماكننا دون أن نتناول فطور الصباح. أردنا أن نقول لهم بأنهم وإن حرمونا من عشاء الأمس عقابا فها نحن نتنازل بمحض إرادتنا عن فطور اليوم.

نودي على المسؤول المشرف عن المعتقل، بدأ بالسب والتهديد كعادته، ثم أدرك بعد أن صمت لبعض الوقت أن التهديد لم ينفع فليَّنَ قليلا من عبارته:

يجب أن تعرفوا بأننا لا نعاملكم كمساجين، أنتم ضيوف عندنا. نحن لم نعتقلكم في الصحراء، فقط جلبناكم إلى هذا المكان انسانية منا، حتى لا تموتوا من الجوع والقمل.

فجأة جاء عسكري وأسَرّ في أذنه كلاما لم نسمعه، لكنه كان كلاما جليلا، فقد تغيرت ملامح الرجل وبدى مرتبكا مرتعدا.

خرج مهرولا، بينما لم نغادر أمكنتنا، بعد دقيقتين عاد رفقة الكولونيل بن هوشات المفتش العام للقوات، ومستشار رئيس الجمهورية بومديان. وجدنا في صف مثير فسألنا:

ـ من أخبركم بمجيئي لتصطفوا هكذا؟

ـ نحن يا مُونْ كولونيلْ لا علم لنا بقدومك، نحن في اضراب عن الطعام بسبب الفيلم، الفيلم الذي تريدون فيه منا أن نقف لرموز البوليزاريو. نحن يا مُونْ كولونيل أسرى حرب، لسنا أحرارا كي يتم استغلالنا في تمثيل أفلام دون رغبتنا. نحن يا مُون كولونيل، أسرى حرب، وليس من حقكم أن تجبرونا للوقوف لتحية رمز ما حتى ولو كان أحد رموز دولتكم. والمسؤول يا مُونْ كولونيل يتوعدنا بأشد العذاب لأننا لم نسايره في هذا الفيلم.

التفت إلى رئيس المحبس، كان ينظر إلى كثفه ليعرف رتبته، لم يجد نياشين على أكتافه فسأله:

ـ بأي رتبة أنت؟

ـ ملازم يا مون كولونيل، فقط، فقط، تكسرت نياشيني قبل يومين وضاعت مني.

ـ يلعن ربك، اخرج من هنا، كيف تتجرأ على الدخول إلى المحبس دون أن تكون على أكتافك شرف دولتك. أنت في مكان العمل وليس في منزلك كي تدخل بلا نياشين. اخرج من هنا، إذا تكسرت نياشينك سآتي لأكسر ظهرك أيضا.

خرج رئيس المحبس ذليلا كقط مطرود، وبقينا نستمع لكلام زائرنا الكبير. طمأننا بن هوشات، أخبرنا أن الرئيس بومديان لا علم له بهذا الفيلم، ولا بالجهة التي تُصَوّره ولا الغرض منه. أقر أننا أسرى حرب، وأنه ليس من حق شخص ما أن يجبرنا على تحية رمز ما. ثم وعدنا أن تتحسن أوضاعنا في قريب الأيام.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *