المغرب الكبير

الثروة المائية في المغرب الكبير .. واقع قاتم وأرقام تلامس خط الفقر

من المستحيل فصل حياة الإنسان عن الماء، فهو عصبها وشريانها الذي يمدها بالاستمرار. والمياه والغذاء مرتبطان على حد سواء، كما أن أي تنمية اقتصادية مرتبطة عضويا بالموارد المائية، وندرتها أو قلتها تعيقان تحقيقها وتجعلانها عقبة، بحيث ليس ثمة زرع، ولا عمران أو صحة.

التوزيع المتباين لمصادر المياه في العالم يجعل العديد من المناطق عرضة لـ”خط الفقر المائي”. وتتزايد حدة هذا الخطر بمقدار نقص مصادر المياه من آبار وأنهار ومياه جوفية.. مما يؤثر على القدرة على تلبية حاجيات السكان من الماء. ذلك أن ندرته تضاعف من قائمة التكلفة الإنسانية بكل المقاييس: جفاف، سوء تغذية، أمراض، مشكلات بيئية، بحيث يتضرر ملايين من البشر بفعل نزوح السكان من المناطق المتضررة. لذا يمر الأمن الغذائي والصحي عبر الأمن المائي.

بديهي أن للماء سلطة سحرية جبارة فهو ذهب أزرق، يمكنه أن يوحد الإنسانية حول السلم والاستقرار والبيئة من ناحية، كما أنه يمكن أيضا أن يتحول إلى مصدر للنزاعات والتوترات من ناحية أخرى، بحيث يزداد هذا التوتر بارتفاع عدد سكان العالم وطلبهم للماء في وقت تضاعف فيه استهلاك الماء ست مرات في القرن العشرين على ما كان عليه من قبل، بينما تقلصت احتياطاته من 16800 متر مكعب في عام 1950 إلى 7300 متر مكعب في عام 2000، فيما تشير التوقعات الأكثر تفاؤلا أنه لن يكون هناك أكثر من 4800 متر مكعب في أفق عام 2025.

والحال أن حصة المواطن العربي تنذر بأنها ستتراجع إلى أقل من 1000 متر مكعب (2740 لترا يوميا)، لكي تصل إلى 500 متر مكعب في غضون عشر سنوات مقبلة، ما يفرض لزاما التحلّي بإرادة سياسية شجاعة تتيح اتخاذ تدابير ضرورية وعاجلة، إذ لا يخفى أن الماء تحول إلى رهان سياسي واقتصادي ومالي وينعكس لا محالة على الاستقرار السياسي والاجتماعي.

الاندماج الاقتصادي والأمني

إجمالا تقدر موارد المياه العذبة في المغرب العربي بـ53 مليار متر مكعب (المغرب، الجزائر، تونس) في المعدل العام، ما يجعلها في صف الدول التي لا تتوفر على احتياطيات مهمة، إن لم يكن أقل من 1000 متر مكعب، وهو وضع يجعلها في خانة الدول التي ستعاني من قلة الماء مستقبلا، بحيث لا تفوق الكمية 793 مترا مكعبا للشخص سنويا، بينما المؤشر الدولي يحدد الاكتفاء في 1700 متر مكعب سنويا للشخص.

وبالتالي هذا الرقم يصنف كلا من دول المغرب العربي الخمس في خانة الدول التي ستعاني من نقص خطير في الماء، لاسيما أن الأرقام المستقبلية تشير أن سكانه سيصلون في أفق عام 2025 إلى أكثر من 100 مليون نسمة. هذا في الوقت الذي سيتراجع معدل المياه العذبة إلى 538 مترا مكعبا سنويا للشخص. ناهيك أن هذا الرقم يبقى مفرطا في التفاؤل بالقياس إلى تباين التساقطات بين مناطق المغرب العربي، لأن الاختلاف يظل شاسعا بين مناطقه:

– المغرب: تساقط الأمطار في المرتفعات حوالي 1800ملم ولا يتجاوز 100ملم في المناطق الجنوبية الصحراوية. وتتم تعبئة الموارد المالية عن 97 سدا و80 خزانا جوفيا. ويأتي القطر المغربي في قائمة البلدان العربية التي تمتلك موارد مائية متجددة حيث تبلغ أكثر من2،5 مليار متر مكعب. بحيث يتوفر على حوالي 30.000 مليار متر مكعب، حيث يبلغ المعدل العام أكثر من 1064 مترا مكعبا سنويا للشخص بسبب التساقطات المطرية التي تأتيه من المحيط الأطلسي. كما تختزن أوديته (وادي سبو: 6،6 مليار متر مكعب ووادي أم الربيع: 4،5 مليار متر مكعب واللوكس :1،6 مليار متر مكعب وتانسيفت 1،2 مليار متر مكعب)، فيما تحوي مياهه الجوفية حوالي 7 مليار متر مكعب. لكن يبقى أن المتوتر منها على المدى الطويل لا يفوق النصف (16،5 مليار متر مكعب)، ومن ثم يكمن القلق القادم في أرقام التخمينات المستقبلية التي تنذر بأن ينحصر في 12،5 مليار متر مكعب، وهو أمر يقلل من هامش المناورة لديه ما دام في حاجة إلى ثلاثة أرباعها حاليا.

– الجزائر: تأتي أغلب التساقطات المطرية من جهة حوض البحر الأبيض المتوسط وما يمكن سحبه من الأحواض الجوفية، لكن إمكانية مخزونها ضعيف وينحصر في 19 مليار متر مكعب، بحيث تصل التساقطات حوالي 1500ملم في الشمال و50ملم في الجنوب الصحراوي، أي حوالي 638 مترا مكعبا سنويا للشخص الواحد، بالإضافة إلى أنه ثمة تباين شديد بين منطقة الغرب الغني بالأحواض والمياه الجوفية، بينما تقل فيه التساقطات والشرق الذي تسيل فيه أغلب الأنهار الرحومل (910 مليون متر مكعب)، الصومام (700متر مكعب) وبعض الوديان الصغيرة في قسنطينة (910 مليون متر مكعب وإيسر (520 مليون متر مكعب). فيما يتميز نهر الشلف في الغرب على طول 725 كيلومترا (1540 مليون متر مكعب).

– تونس: يبقى الوضع متأرجحا، حيث أن إمكانياتها أقل حجما مما عليه عند جاريها الشقيقين، فهي لا تتعدى 468 مترا مكعبا سنويا للشخص في المعدل العام، بحيث تبلغ التساقطات في أقصى الشمال حوالي 1500 ملم فيما تصل في الجنوب إلى 50ملم.

هذا بالرغم من أن البلد قام بمجهود جبار في تقنين موارده المائية، الجوفية منها كما السطحية، لكن ما يلاحظ أن نسبة السحب وصلت 88 بالمئة. الأمر الذي يعني أن هامش المناورة لديها جد ضيق في المستقبل.

والحال أن نسبة حجم الموارد المائية الجوفية تقارب حجم المياه السطحية، حيث يلاحظ أن 80 بالمئة من المياه السطحية تقع في الهضاب الجبلية الشمالية الغربية، بينما 91 بالمئة من الحاجيات تتمركز في الشريط الساحلي حيث تتجمع المدن والمناطق الصناعية والنشاط السياحي الكثيف، حيث أن الإقبال مرتفع جدا على استهلاك المياه. لذا كان لا بد من نقل كميات كبيرة من وادي مجردة (1000 مليون متر مكعب، وهو أهم أنهار البلاد التونسية وينبع من سوق أهراس غربي الجزائر ليلقي بمياهه في البحر المتوسط على مستوى خليج تونس، ويبلغ طوله 460 كم، ومن الوديان الساحلية في الشمال (550 مليون متر مكعب) أو من بحيرة إشكل (265 مليون متر مكعب، حيث يصب فيها ستة أودية لستة أنواع رئيسية من المياه العذبة. بخلاف الاستهلاك الكبير من المياه الجوفية المتواجدة بكثرة في الشمال ووسط البلاد، حيث تقدر كميات السحب 700 مليون متر مكعب. وهو ما يؤكد أن الاحتياطيات في المياه الجوفية تقع في الجنوب لكن الطلب عليها قليل، بالقياس إلى مياه الشمال الجوفية، لكن عملية سحب المياه تتطلب تقنيات حفر معقدة وباهضة.

– ليبيا: تتميز عموما بقلة التساقطات المطرية (ما بين 250-300ملم في الساحل و50ملم في الجنوب)، لكن الجدير بالاهتمام هو الإشارة إلى الآفاق الواعدة التي يفتحها مشروع نهرها الصناعي، بحيث حاولت رفع تحدي المناخ والبيئة الصحراوية المترامية الأطراف، وذلك عبر الرهان في البداية على خلق قطاع فلاحي وسط الصحراء يتم سقي مساحات أراضيه المستصلحة عبر المياه الجوفية، لكنها لجأت إلى سحب مياه الصحراء إلى الساحل رغبة منها في إنعاش القطاع الفلاحي على الساحل الليبي وإمداد مدنه بالماء الصالح للشرب.

ومن ثم إن التحديات التي ما يزال على النهر الصناعي رفعها كبيرة، بالإضافة إلى أن ضخامة التكاليف المرصودة كانت قياسية (30 مليار دولار)، بحيث تنقل مياه الصحراء الجوفية عبر 4000 كلم من القنوات الممتدة تحت الأرض، وتحمل أكثر من ملياري متر مكعب من الماء.

كما أن الجدير بالذكر امتداد قنوات عملاقة من أحواض السرير والكفرة والحمادة ووتزرزو نحو خزان أجدابيا الضخم، فضلا عن إيصال مياه الأحواض إلى كل من مدينة بنغازي وسرت وبريقة وطرابلس، ثم إكمال الجزء الثاني من المشروع بين فزان وطرابلس (1000 كلم) الذي ما يزال ينتظر لسد حاجيات المدن من الماء وسقي 250.000 ألف هكتار في مناطق بنغازي وسرت وجفارة، ما يعيد الحيوية نسبيا إلى المناطق الفلاحية التي أنهكها المعمرون الإيطاليون، بخلاف سقي مناطق جديدة تصل إلى 180.000 هكتار منها. علاوة على ذلك، يبقى أن نشير بالرغم من الفوائد المنتظرة والكبيرة من مشروع النهر الصناعي، فإن 70 بالمئة من المياه المستعملة في ليبيا مواردها غير مجددة، ناهيك أن تكلفة جلب الماء من الأحواض الجوفية الصحراوية مرتفع نسبيا (ما بين 1 دولار إلى 1،3 دولار للمتر المكعب).

– موريتانيا: تتميز بمناخ صحراوي جاف وهذا البلد توجد به أضعف الحلقات المائية في المنطقة المغاربية، لا تتجاوز فيه التساقطات المطرية 500ملم في الجنوب الشرقي و20ملم في المناطق الداخلية.

لذلك يعتبر نهر السنغال أهم مورد للمياه بحوالي 4 و8 مليار متر مكعب يتوزع بين السنغال وموريتانيا ومالي وغينيا.

مجمل القول، إن البلدان المغاربية تتوفر على كميات متفاوتة الأهمية ومتباينة، يمكن إيجازها في ما يلي:

– ضعف الإمكانية الهيدرومائية

– عدم انتظام التساقطات الموسمية

– سوء توزيع بين الجهات

– تكاليف عالية لاستخراج المياه الجوفية، ما يجعل منها أهم المعيقات التي تتطلب رفعها في ظل الحاجيات المتزايدة من الماء، هذا في الوقت الذي تدرك دوله جميعا بأن تحقيق الأمن الغذائي يتطلب بالضرورة توسيع مساحات الأراضي المسقية، علاوة على ارتفاع الاستهلاك في المناطق الحضرية بشكل صاروخي. وبالتالي يبقى التحدي الذي يواجهه المغرب العربي في الأمن الغذائي ناجم عن تنامي العامل الديموغرافي بنسبة تتراوح ما بين 2،8 بالمئة إلى 3 بالمئة سنويا، ما يعني أن عدد السكان سيكون ضعف ما هو عليه اليوم عام 2025.

حلول وبدائل

إذا كانت الأرقام تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المغرب العربي يعيش حالة من “القلق المائي” مع بعض الاختلافات الطفيفة، بالقياس إلى معدل قوي في النمو الديموغرافي والتحسن المتصاعد في مستوى معيشة المواطنين، فإن وضع الجزائر وتونس صعب عما هو عليه الحال في المغرب، بينما سيكون الوضع في ليبيا وموريتانيا أكثر حدة وخطورة مستقبلا.

وبالتالي يجب مراجعة السياسات الاقتصادية التي لم تدخل في حساباتها قضية الماء (خاصة في الجزائر)، وتجعل منه عنصرا مهما في تحقيق تنمية مستدامة مشتركة.

– أول الإجراءات تتمثل في اتخاذ سلسلة من التدابير المستعجلة، لأنها من متوفرة وتتطلب فقط إرادة سياسية مشتركة تهدف إلى تقليص كميات لا بأس بها من التبذير الحاصل (نسبة الضائع من المياه في القنوات تصل 35 بالمئة في المغرب و30 بالمئة في تونس، أما الوضع في الجزائر فهو مرتفع جدا) كما يجب حماية المياه العذبة من التلوث ومعالجة مياه الصرف الصحي لاستغلالها من جديد.- ثانيا إعادة توجيه الاقتصاد الوطني نحو قطاعات مقتصدة في الماء، كما هو الأمر في قطاعي الفلاحة (استبدال الري الثقيل بطريقة الري عبر التنقيط) والسياحة (المغرب وتونس) أو قطاع البيتروكيماويات (الجزائر وليبيا).

والواقع أن حالة القلق الهيدرومائية المشتركة تفرض على جميع البلدان المغاربية، التعاون من أجل توفير تكاليف ومضاعفات مواجهة النقص، ناهيك عن الرفع من الإمكانيات المائية المتوفرة أو على الأقل الحفاظ على المعدلات الحالية في أفق 2025.

لذلك يتضح بأنه إذا أردنا تحقيق كفاية مائية تتناسب مع ارتفاع وتيرة النشاط الفلاحي والصناعي وحاجيات السكان في بلدان المغرب العربي، على المغرب وتونس والجزائر وليبيا، تخصيص اعتمادات مالية لا تتجاوز مليارا و500 مليون يورو، لكي يتم ضمان توفير واقتصاد حوالي 500-600 متر مكعب سنويا للشخص في كل من الجزائر وتونس، وما بين 700-800 متر مكعب في حالة المغرب، أما في ليبيا فيمكن أن يصل التوفير إلى 250-350 متر مكعب. وهو أمر لا يمكن أن تحلم به بلدان المغرب العربي في أفق عام 2025 إذا لم تدرج أمنها الغذائي والمائي في صلب أمنها المغاربي المشترك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *