جهويات

هيبتنا الحيرش يكتب: تاريخ أسا الذي شهدناه

كتبَ كثير مِن الغربيين (الفرنسيين على وجه الخصوص) عن منطقة وادي نون، وخاصة أسا، والخزانة في الموضوع ثرية ومتنوعة، توليتُ شخصيا ترجمةَ أهم ما فيها إلى لغة الضاد (مونتاي، بيران)، والقارئ المهتم بين يديه الآن مراجع مِن شأنها أنْ تغنيه –كما يقال بلهجتنا الجميلة- عن ﯕﻴﺴان بعيد، مِن أجل أخذِ فكرة مركزة وواضحة عن تاريخه وتراثه.

ما يهمني هنا ليس الحديث عن الترجمات التي أنجزتها فهي متوفرة  بالمكتبات في أسا وﯕليميم، الخ.، بقدر ما يهمني أنْ أرسم للجيل الجديد الذي فاتته بعض الأحداث الهامة المرتبطة بنهاية الثمانينات  والنصف الأول مِن التسعينات صورة عنها، وأذَكر بها في الوقت نفسه –حجرة كاتلة طيرين- الجيلَ الذي كان فاعلا مباشرا فيها، ذلك أن تلك الأحداث لها تأثير كبير –حسب رأيي المتواضع- في تشكيل نفسيةِ الإنسان في أسا ووعيه السياسي والاجتماعي.

في نهاية الثمانينات، تخرجَ بعض أبناء أسا مِن الجامعة وعادوا إلى موطنهم وجاءوا بأفكار جديدة عن الممارسة السياسية، أقول جديدة في الوسط الآسوي وإلا فهي متداولة في العالم كله منذ أواسط القرن 19، أفكار تتعلق بصراع الطبقات (كما طوره ماركس في البيان الشيوعي مثلا)، وبحقوق الإنسان، الخ. كانت إذن شرارة نهضة سياسية قد أطلِقت وخلفَت كما يعرف المتتبع نتائجَ هامة على المستوى السياسي والاجتماعي، وبدأنا نرى أبناء أسا –لأول مرة بشيء قليل مِن المبالغة- في وظائف مدنية في جميع القطاعات (الجماعات، التعليم، الطب، واللائحة مفتوحة لمن يريد المزيد وله مخيلة خصبة).

طبعا هذا قد يبدو عاديا في أماكن أخرى، لكنه في أسا غير ذلك، إذْ كانت له آثار عميقة على البنية الاجتماعية بالمنطقة، فقد تبدلت أحوال، وانتعشت طبقات وملئت صفوفها، وظهرت أخرى وارتقى مَن ارتقى في السلَّم الاجتماعي وهبط مَن هبط، وتلك سنة مِن سنن العمران البشري الذي يدور دورته لا يلوي على شيء ولا ينتظر مَن تخلَّف.

ما يمكن ملاحظته الآن على وجه السرعة هو أن الممارسة السياسية قد خبَا وهجها، وبما أن الطبيعة –كما يقول القائل- تخشى الفراغ فإن فتيلا آخر قد اشتعل على الأقل منذ عشر سنوات خلتْ وهو الممارسة الثقافية وأكرم بها مِن ممارسة، وبات الاهتمام بها يتزايد ويكبر وهذا لعمري خبر سار، فالسياسة بلا وعي ثقافي يسندها لا تثمر والفعل الثقافي بلا ممارسة سياسية عقيم، ومتى اجتمعا فالأول لقاح للأخرى وهي رحم له وبهما تكون حياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *