تربية وتعليم

حوار مع أستاذ الفلسفة بلخير بومهاوت

بصوته الجهوري ومحياه الطلق كان ديدنه أن يستقبل تلامذته ببشاشته المعهودة وروحة المرحة ونفسه المفعمة بالجدية والتفاني. رغم أنه لم ينيف على الخمس حجج بين أفياء أسا، الا أنه ترك بصمته الوازنة في المشهد التعليمي،

انه الأستاذ بلخير بومهاوت، الذي يوشح رزنامة من المحافل التربوية بمشاركته الفعالة في المحاضرات وغيرها من الأنشطة الموازية.

اليكم نص الحوار الذي يجمع في ثناياه  المتعة و الإفادة.

  بطاقة تعريفية للأستاذ بلخير بومهاوت…

  • بومهاوت بلخير أستاذ مادة الفلسفة بثانوية وادي الصفا التأهيلية بمديرية أسا الزاك.
  • مزداد بجماعة فاصك عمالة إقليم كلميم في 2 مارس 1989.
  • درست الابتدائي والإعدادي والثانوي بمدينة كلميم.
  • حاصل على الإجازة في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر.
  • خريج المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالقنيطرة شعبة الفلسفة.

-كيف استقبلت خبر انتقالك، خصوصا بعد الحظوة المكينة التي نلتها، سواء في الوسط التعليمي أو لدى الساكنة ؟

  • أولا وقبل كل شي أشكركم وأحييكم على اهتمامكم بأطر التربية والتعليم بأسا، كما أشكركم على هذه المبادرة الطيبة، ويسعدني ويشرفني كوني اشتغل بهذه البلدة والرقعة الجغرافية حيث عشت لحظات جميلة مع التلاميذ والتلميذات و زملائي في العمل وخارجه. أما فيما يخص انتقالي إلى منطقة أخرى فهذه سنة الحياة، لكن ستبقى هذه لمدينة عزيزة على القلب.

– هل تخصص حيزا لمطالعة الكتب الأدبية علما أنك قارئ نهم للكتب الفلسفية؟

  • مطالعة الكتب الأدبية بالنسبة لي مسألة مهمة بشكل خاص، ومهمة لمدرس الفلسفة بشكل عام.

أنا اقرأ لعديد من الأدباء والروائيين الكبار كدوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف و هنري ميلر و بلزاك و طه حسين وعبد الرحمن منيف… والشعراء الكبار كمحمود درويش والمتنبي وبول ايلوار و هلدرلين وبودلير …، وتكتسي قراءة الكتب الأدبية لدى أستاذ الفلسفة أهمية عظمى، لأنها تحمل وتعبر عن ثقافة الشعوب والأفراد والمجتمعات، فكثير من الفلاسفة عبروا عن حدوسهم وتصوراتهم الفلسفية بلغة قريبة من الأدب والفن والشعر. مثلا هيدغر في شروحه لشعر هلدرلين وتراكل، وتفسير سارتر لشعر بودلير، ولسارتر أيضا كتابات مسرحية كان الهدف منها شرح وتبسيط وتطوير مذهبه في الوجودية، كما لا ننسى التأثير الذي أحدثه مثلا دوستويفسكي على العلماء والفلاسفة المعاصرين كفرويد و نيتشه، الذي قال عنه ” إن دوستويفسكي هو عالم النفس الذي من الجدير التعلم منه”، وعندما نقرأ روايته “في القبو” سنجد انه من بين الأوائل الذين اكتشفوا عوالم أخرى في حياة ووجود الإنسان ظلت مغيبة إلى حدود القرن19، حيث اخترع مفهوم السرداب أو السراديب وهي نفسها تقريبا مفاهيم البنية و العوالم الخلفية واللاوعي عند كل من ماركس ونيتشه وفرويد. هكذا يمكن للأدب أن يكون أصدق شكل من أشكال التعبير الفلسفي.

نفس الشيء يصدق أيضا على الشعر في علاقته التاريخية بالفلسفة، أي علاقة الصورة بالمفهوم وعلاقة الخيال بالواقع. لطلما كان الشعر هو المضاد للحقيقة منذ أفلاطون عندما  قال “لا يدخل أكاديميتي من ليس مهندسا”، هذا جاء نتيجة الصراع على مجال الحقيقة، والنصوص الدينية أيضا ستواصل هذا التقليد الأفلاطوني والقرآن ليس استثناء في هذا التقليد (سورة الشعراء)، واستمر هذا الانفصال إلى حدود الشعراء الرومنسيين الكبار، حيث سقوط هذا التقليد، وسيتحقق ما كان خيالا على أرض الواقع، وسيصبح المجاز واقعا والاستعارة واقعا، ومن ثم لم يعد الشعر هو المضاد للفلسفة أو للحقيقة، بل سينخرطان في مشروع واحد هو الانتصار لقيم الحياة عل قيم التعالي. واسمحوا لي أن أقدم مثالا في هذا الصدد، قبل سنوات قرأت كتاب “المشاكل الفلسفية للعلوم النووية”  للفيزيائي المعاصر فيرنر هايزنبرغ صاحب مبدأ الاحتمال في الفيزياء، حيث وضح – في الفصل الخامس من الكتاب والمعنون بتعاليم غوته ونيوتن عن اللون في الفيزياء الحديثة- أن تصور غوته الشاعر لخصائص ظاهرة اللون، ليس أقل أهمية من تصور نيوتن الفيزيائي لنفس الظاهرة، لأن تصور هذا الأخير هدفه السيطرة على الطبيعة وذلك بترييضها، في حين الأول هدفه وصف الطبيعة من جهة نظرة الحالم والشاعر، فكان لتصوره أن يكون له دور هائل في تطور فن الرسم، قال الفيزيائي الألماني هولمهولتز عن غوته “إن نظرته للضوء لابد وأن تعتبر محاولة لإنقاذ حقائق الانطباع الحسي من هجوم رجال العلم”، لقد أصبحت هذه المهمة اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. هذا ما قصدته فيما قبل بانتصار قيم الحياة بدل قيم التعالي. هكذا تظل العلاقة بين الشاعر والعالم مستمرة، و يظل كل واحد من هما ضروري للأخر. هنا يمكن أن نستشهد بقول الابستيمولوجي المغربي الأستاذ عبد المجيد باعكريم حيت قال في إحدى محاضراته حول علاقة الفلسفة والعلم بالشعر” إن المثل الأعلى في المعرفة و الإبداع الإنسانيين هو أن يكتسي العقل أبعادا شعرية، لكي يمنح لشعر ضمانات الدقة”.

هكذا إذن تفرض الممارسة الصفية على مدرس الفلسفة الاستعانة بمجالات عدة لتتحقق العملية التعليمية التعلمية وتكون أكثر ثراء.

– ما هو سر عشقك لمهنة التدريس خصوصا ما يتعلق بالممارسة الصفية؟

صدقني لو خيرتني بين تدريس الفلسفة وشيء آخر لاخترت تدريس الفلسفة، لأن في الأمر متعة منقطعة النظير، و لا يمكنني أن أتخيل نفسي إلا وأنا مدرس للفلسفة، فالممارسة الصفية تجعلك قريبا من الآخرين لان القسم عالم مدهش  تتعلم من التلاميذ وتعلمهم، لطالما تعلمت منهم الشيء الكثير، لأنه لا يختلف المعلم الحق – حسب هيدغر- عن التلميذ إلا في انه يستطيع أن يتعلم بكيفية أفضل وأنه يريد أن يتعلم بكيفية أكثر أصلية.

– في نظرك ماهي أهم سمات الأستاذ الناجح ؟

  • حب المهنة والسعي نحو تطويرها.
  • نكران الذات.
  • التحلي بالأخلاق الحسنة.
  • التكوين الذاتي والتعلم مدى الحياة.
  • يجب على المدرس أو المعلم أو الأستاذ أن يتخلص من تلك الرؤية الفاشية كما سماها أحد الزملاء الأساتذة، أي الرؤية المتمركزة حول الانتشاء (بالسالير، الاستقرار، الكونجي، الطوموبيل،…) ويضيف أن رؤية المواطنة الحقة هي رؤية من يحمل هم البشرية مثلما يحمل هم ابنته الصغيرة… يقول ستندال “الشرف أن يكون هوس المرء مهنته”

-هلا حدثتنا عن مدرس تتلمذت على يديه وكان ملهما لك ؟

  • تتلمذت على يد مدرسين كثر ولكل واحد منهم بصمة ودور في تكويني واشكرهم جزيل الشكر واحدا واحدا دون استثناء.

– سنترك لك حرية اختيار أسماء بعض الفلاسفة مع التعليق على كل واجد على حدة …

  • إن تاريخ الفلسفة في جزء منه هو تاريخ الفلاسفة العظام، إنهم يتحاورون حوارا عقليا مستمرا عبر ألاف السنين، أي منذ الإغريق إلى اليوم، وبالتالي مجال الفلسفة هو مجال المشترك، ومجال الاختلاف وتدبيره بين الأطراف المتباعدة للجمع بينها، لان اعلم الناس اعرفهم باختلاف الناس. ليس هناك فيلسوف أفضل من فيلسوف أخر، لكل فيلسوف فلسفته الخاصة، وكل فلسفة هي بنت عصرها على حد تعبير هيغل. مثلا لولا عالم الفلك كوبرنيك في القرن 16 لما تحدثنا عن غاليلي او ديكارت أو نيوتن خلال القرن 17. ولولا باطليموس و ابن سينا وابن باجة و الطوسي والبطروجي وابن رشد وابن الهيثم لما تحدثنا عن كبرنيك نفسه الذي قال في إحدى رسائله “إن الذي سيشهد لي على صحة موقفي هو ابن رشد “، إن كان يدل هذا الأمر على شيء، إنما يدل على كونية التفكير الفلسفي وعلى مشاركة كل الأمم في تشكيل الثقافة الإنسانية عامة. هكذا إذن يقف عمق التفكير الفلسفي على مدى قدرة المرء على استيعاب الروح التاريخية الفعالة التي انبثقت منها شخصيات الماضي كما يقول كارل ياسبرز، والدفع بها إلى الأمام، فكل الحضارات تتلمذت على بعضها البعض، تتلمذ الإغريق واليونان على الحضارة الفرعونية والبابلية… وتتلمذ المسلمون على الحضارة الإغريقية واليونانية، كما تتلمذ الأوربيون في القرون الوسطى والنهضة على الحضارة الإسلامية، ونحن اليوم نتتلمذ من جيراننا الاوروبيين، وهذا ليس عيبا، لأنه في رأي لا توجد حضارة بدأت من الصفر، وذلك – حسب الفيلسوف الالماني هيدغر- لكي نبلغ البدء وان نجرب قانونه مبدعين، علينا بتعبير نيتشه “هضم ثقافة الشعوب الأخرى، والتقاط الرمح من حيث تركه هذا الشعب أو ذاك، حضارة أو تلك، للدفع به إلى ابعد… خدمة للحياة وليس للتعالي على الجار”.

-بلغنا من كواليسنا الخاصة أنكم تحسنون مداعبة المستديرة. السؤال: هل لديك فلسفة خاصة في التعامل مع المجال الرياضي، ممارسة ومتابعة ؟

  • أولا شكرا لكم على هذا السؤال.
  • بالنسبة للرياضة كنت أتابعها فيما قبل ككل الشبان، لكن اليوم لم اعد أتابعها بنفس الشغف وبنفس الاهتمام لأسباب عدة من بينها انتشار ثقافة خطيرة مضمونها أن متابعة الرياضة يغني من ممارسة الرياضة، ونتج عن هذا الأمر ظواهر خطيرة تصل إلى حد قتل الأشخاص بعضهم بعضا تعصبا لهذا اللاعب أو ذاك أو لهذه الشركة أو تلك، والعدو الذي يجدر بالإنسان أن يحاربه هو التعصب، ناهيك عن التخريب وتجييش الناس بشكل غير مسبوق للاستهلاك ونسيان القضايا الأساسية في الحياة، بمعنى اخر، نحن نستهلك طاقتنا الحيوية سلبا في مجتمعاتنا. وبالتالي متابعة الرياضة لا تغني من ممارستها، في حين ممارسة الرياضة تغني من متابعتها.

-ما هو معروف أنك تتابع عن كثب مسار تلامذتك النجباء بعد حصولهم على الباكالوريا. هل يمكن أن تحددوا لنا بعض الأسماء التي ظلت موشومة في ذاكرتكم ؟

  • إن مواكبتي لبعض التلاميذ النجباء الذين درستهم سابقا لا ينفصل عما قلته سابقا فيما يخص سؤالكم عن سمات الأستاذ الناجح والممارسة الصفية. أما بالنسبة للأسماء صدقوني إن قلت لكم إنني أتذكر جميع التلاميذ الذين درستهم، بل أتذكر حتى تلك التفاصيل الصغيرة التي حدثت بيني وبين كل واحد منهم، وسبب هذا هو كوني أتعامل مع كل واحد منهم حسب شخصه وشخصيته، لأن كل تلميذ كما أن كل شخص مختلف ومتفرد عن الآخرين، فالوجود المشترك هو وجود ضد العنف، وكل تصنيف عمودي للعلاقات الإنسانية هو تصنيف ضد قيم الحياة التي يجب أن تسود المدرسة ومن تم المجتمع والمحيط البيئي، لأن الذات التي تعرف نفسها في لحظة تغييب الأخر تسقط من خلال تضييعها للعلاقة مع الأخر، والأنا لا يكون إنسانا إلا إذا هجر ذاته كما يقول الفيلسوف أللتواني امانويل ليفيناس.

أشكركم على أسئلتكم وأتمنى أن تتقبلوا إجاباتي على بساطتها كما أتنمى لكم التوفيق والنجاح.

حاوره محمد عالي الحيرش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *