آراء

الإفك في “غزوة الإفك”

آثرت على مدى أسابيع، ألا أخوض في موضوع الوزيرين الشوباني وبن خلدون، حتى لا أكون طرفا في معركة حاذت عن “الصراط المستقيم” وتفرق الخائضون فيها إلى قبائل وشيع و”كل حزب بما لديهم فرحون” بمواقفهم المتناقضة، واكتفيت فقط بتسجيل ملاحظات عابرة على صفحتي بالفيسبوك، لأن الأمر كان يتطلب التعليق رغم كل شيء.

ولا يهمني في هذه الورقة المتواضعة اليوم، الخوض مع الخائضين ولا مناقشة الأمر من باب هل يجوز أو لا يجوز شرعا أو قانونا أو أخلاقا؟ بل يهمني بالأساس رد الفعل الصادر عن الوزير -بطل القصة- تحت عنوان: “غزوة الإفك”، بكل ما تحمله هذه العبارة من حمولة دينية وتاريخية، يكفي أن نستحضر منها أن واقعة “الإفك” الشهيرة هي “الدليل” الذي يعتمده الشيعة لحد اليوم لتبرير لعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

ولم يكن مستغربا أن يتم تقاذف هذه العبارة من طرف المتعاطفين مع الوزير ومناضلي حزبه دون تبين، وكأنه ينتمي إلى فئة منزهة عن الخطإ حتى لا أقول “معصومة” على طريقة أئمة الشيعة.

وبطبيعة الحال لم يكلف الذين استعملوا وصف “الإفك” -تعليقا على المغامرات الغرامية للوزيرين العداليين-، أنفسهم عناء العودة إلى حديث الإفك كما رواه الإمام البخاري في كتاب المغازي.

فلو قرأوا هذا الحديث بتمعن لأدركوا حجم الزلة التي قادهم إليها التعاطف الأعمى من السيد الوزير، لأن استعمال “الإفك” هنا له إسقاطات “تاريخية/دينية” لا تخطئها العين، مع أن العبرة في نازلة اليوم، أنه لا السيد الشوباني هو الصحابي صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه (وذلك تأدبا مني مع الرسول عليه الصلاة والسلام)، ولا “مدام” بن خلدون -استغفر الله- هي السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها.. ولا شباط وغيره ممن خاضوا في هذا “الإفك” يندرجون تحت مفهوم “الذي تولى كبره”.

بل لو قرأ هؤلاء الجزء الخاص بحادثة الإفك كما ورد في سورة النور لما تجرأوا على هذه المقارنة غير المقبولة.. لأنها ترفع أقواما في أسفل سافلين إلى مصاف من شهد الله تعالى لهم من فوق سبع سماوات بالطهر والعفة.

بل يكفي أن نستحضر أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة : “علموا نساءكم سورة النور”، وهي نفس الصيغة الواردة عن السيدة عائشة رضي الله عنها، وفي هذا دليل واضح على أن السورة التي استنجد بها الوزير للدفاع عن نفسه، تحمل دليل إدانة تصرفاته.. وأنا هنا أتحدث من موقع الباحث الذي قضى سنوات في دراسة هذه السورة الفريدة من نوعها في القرآن.

إن محاولة إعطاء هذه المعركة “السياسية/ الأخلاقية” بعدا دينيا هو خطيئة بكل المقاييس، بل إنها زلة أعظم من قصة الحب والهيام التي قد تنتهي بزواج وقد تنتهي إلى لا شيء.. فالعرب كانوا لا يزوجون بناتهم ممن يشبب او يتغزل بهن.

بل إن “التعالي” الذي تعامل به أطراف القضية، مع المنتقدين والمعلقين والشامتين، يدفع تلقائيا إلى طرح سؤال الخلفية والمرجعية، التي يتشدق بها البعض، ويعتبر نفسه -تلقائيا- فوق الشبهات، فقط لأنه ينتمي إلى فصيل سياسي بعينه، ناسيا أن الناس لهم الظاهر، والله يتولى السرائر، والظاهر يؤيد ما فهمه الناس من شواهد كثيرة..لا حاجة لإعادة اجترارها.. ولا لوم عليهم في ذلك.

وفي كل الأحوال، فالمؤمن الصالح يتعفف حتى عن الحلال إذا كان فيه ما يخل بالمروءة.. وقد نهى عمر رضي الله عنه مثلا ولاته عن الزواج من الروميات “الشقراوات ذوات العيون الزرقاء” حتى لا تقلدهم العامة فتضيع حقوق المسلمات.

بل إن القصد الواضح هنا هو أن يكون “أولوا الأمر” قدوة للعامة، فلا يكتفون بمراعاة الحلال والحرام، بل يتجنبون حتى الأمور التي تدخل في إطار “الشبهات”، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.

أما الاعتقاد بأن هناك شخصا ما فوق الشبهات، ومنزها عن الزلل “تلقائيا”، فيكفي أن نذكر السيد الوزير ضحية “غزوة الإفك” بحديث أم المؤمنين صفية بنت حيي، حين قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “على رسلكما إنها صفية بنت حيي”. فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال : “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا”. (أخرجه البخاري)

ومعنى هذا الحديث باختصار أن صحابيين من الأنصار أسرعا الخطا ليتعرفا على المرأة التي تسير إلى جنب النبي عليه السلام، الذي بادرهما بالقول: “على رسلكما إنها صفية بنت حيي”، وذلك حتى لا يظنا به شرا .. ولم يتهمهما بأنهما ارتكبا “إفكا”، لأنها طبيعة البشر، والناس لها الظاهر والله يتولى السرائر.. كما يقال.

وفي نفس السياق دائما، يمكن أن نسترشد بقصة أخرى، حيث إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: “إني نهيت عن كذا وكذا، والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس، إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر”.

إن “رجل الدولة” ينبغي أن يتحكم في كل صغيرة وكبيرة من تصرفاته وحتى تصرفات المحسوبين عليه، الظاهرة للناس، ولا ينبغي أن تقوده غرائزه وشهواته وأهواؤه.. حتى لو كانت في دائرة المباح.

ولهذا من الوهم هنا تسويق الأمر من زاوية أنه “زواج” أو “تعدد زوجات” فقط، لأن الحقيقة غير ذلك، بدليل الحرج الذي وقع فيه قادة حزب العدالة والتنمية، حيث لم نر منهم موقفا واحدا صريحا كما يحدث عادة في المعارك التي يكون فيها “الحق” واضحا مائة بالمائة، بل إن كثيرا من التصريحات كانت في الاتجاه المعاكس لما هو متوقع، وكثير منها فضل الخوض في العموميات تفاديا لإعلان موقف صريح لابد أنه وصل إلى “أبطال الرواية” بأسلوب يتفادى تحول النصيحة إلى فضيحة.

وبدليل أيضا، أن ما يعرف بـ”الكتائب الإلكترونية العدالية” المرابطة في مواقع الإنترنيت على مدار الساعة، لم تجد ما تدافع به عن أبطال “غراميات الحكومة” بعد كثير من النفي والتردد في البداية، وهي التي اعتادت أن تمطر “الخصوم” بقذائف ثقيلة حتى لو تعلق الأمر بـ”نيران صديقة”.

باختصار إن الواقع عندنا لا يتسع لمغامرات “شتراوسكان مغربي” حتى لو كانت “متخيلة” أو في إطار زواج شرعي وعلى كتاب الله وسنة رسوله.

وأرجو ألا يتوهم السيد الوزير و”خطيبته” أن هناك تعاطفا شعبيا معهما، على أساس أنهما لم يحلا حراما، ولم يرتكبا جريمة، وأن هذا التعاطف كاف للرد على “كيد الكائدين” و”خوض الخائضين”.. فالأمر في النهاية لا يمكن إلا أن يصنف ضمن “مراهقة في الستين”، لا تليق بأيها “الملتحون” من بائعي “الخدنجل”، الذين لا يعترفون بقوانين الدولة ووثائقها، فما بالك باثنين من “أولي الأمر”.

ولا أدري كيف غاب مثلا عن الوزير الحصيف، الحرج الذي سيتسبب فيه لأبناء “الخطيبة” وهم رجال منهم ربان الطائرة الحربية والمهندس.. اللهم إلا إذا كنا نتحدث عن ناس تربوا على الانضباط بصرامة “حزب الله”، اللبناني طبعا، وليس حزب الله المذكور في سورتي المائدة والمجادلة.

خلاصة القول، لو تعلق الأمر بـ”عاشق” يهيم على وجهه في صحراء تافيلالت أشعث أغبر يقف ويستوقف ويبكى ويستبكي على طلل درس، ويطلق زفرات حرى .. لما احتاج الأمر كل هذه الوقفة، ولو أن كل الشواهد تفيد أن “حبيبنا” وهو يشبب بـ”سمياه” ويتغزل بها، ما كانت قريحته لتجود أبدا بشعر من قبيل.

أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها.. لي الويل مما يكتب الملكان

فأكثر ما يستطيعه هو شيء من قبيل

أحبها وتحبني .. يحب ناقتها بعيري

أما وأن الرجل يحتل منصبا ساميا في هرم الدولة، ومع ذلك سمح لـ”هواه” أن يقوده و”يضله عن سواء السبيل”، فالأمر يتطلب ليس فقط وقفة، بل قرصة أذن، خاصة وأننا أمام حزب يشهر ورقة “المرجعية” في وجه خصومه، ويزايد عليهم بـ”التقوى”.

والأغرب من ذلك، فقبل أن تبرد ضجة هذه “المغامرة” غير المحسوبة، صنع الوزير عمارة الحدث هو الآخر بـ”سريره وحمامه”، ودخل في معركة كلامية مع منتقديه، حول قيمة “الصفقة”، بينما كان عليه أن يقنع الرأي العام أولا بمدى حاجة الوزير للنوم والاستحمام في مكتبه، وهل انتخبه الناس من أجل ذلك..؟.

ولحسن الحظ أن ابن بوعرفة، لم يبحث في القرآن والسنة عن شيء يبرر به موقفه، ربما لأنه لم يجد فيهما سوى قصة ابن اللتبية بطل قصة “هذا لكم وهذا أهدي إلي”… وربما لأن حديث :” قيلوا فإن الشياطين لا تقيل..”. لا يمكن الاستشهاد به في هذه النازلة.

والخلاصة، إن حالة الاسترخاء التي جعلت الوزراء العداليين يخففون من “حذرهم”، لها أسباب كثيرة منها: أنهم “أيقنوا” بأن الرياح المعاكسة لـ”الربيع العربي” لم تهب على المغرب، ومنها أن ضعف المعارضة أوحى لهم بأنهم وحدهم فرسان الميدان، ومنها أن بشائر الموسم الفلاحي الجيد خففت عنهم كثيرا من الأعباء التي عادة ما يحملها الجفاف معه..إلى غير ذلك من مظاهر “الاستغناء” التي تدفع “الإنسان ليطغى”.

لكن التاريخ يعلمنا أنه “من مأمنه يؤتى الحذر”.. وإذا كان الوزراء العداليون قد نجحوا – لحد الآن على الأقل- في امتحان “نظافة اليد”، فإن توالي سقطاتهم في سفاسف الأمور هي بمثابة جرس إنذار لمن “أراد أن يذكر أو اراد شكورا”.. فالصغيرة تجر الكبيرة.. والكبيرة تجر إلى النار … كما يقال.

وفقهاء “المصباح” أعلم بأمور دينهم ودنياهم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *