آراء

فضيحة بن كيران أمام تشومسكي

خالد انعيمة
خالد انعيمة

يبدو عنوان هذا المقال “غريبا” بالنظر إلى تباعد الرجلين فكرا وممارسة، وهو ما يسميه المناطقة بالعبارات المتناقضة ، وأوجه الغرابة تجد ترجمتها في الأسئلة الأولية التالية: كيف يلتقي مفكر سياسي وعالم منطق مع بنكيران كرجل مهرطق؟ وكيف لعالم لسانيات ان يلتقي مع رجل لا يعرف كيف يصون لسانه؟ كيف لناقد الحرب الفيتنامية ان يتساوى مع قائد للحروب الكلامية؟ بأي معنى اذن، يفضح بنكيران نفسه؟

اذا كان تشومسكي قد ألف كتاب: “صناعة الإذعان: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية”، وهوعبارة عن تحليل يبلور نظرية لنموذج البروباغندا، ينتقد فيه وسائل الاعلام وخطها التحريري، فإن بنكيران نجح في صناعة جيش من أشباه “الاعلاميين” في الجرائد الورقية والإلكترونية، دون القفز على الاعلام الحزبي، والحضور الدائم في الاعلام المرئي (الجزيرة نموذجا)، بل امتد هذا التجنيد (المدفوع الأجر طبعا) إلى فضاءات التواصل الاجتماعي (فيسبوك كمثال). وما الضرر في ذلك؟

إن المهتمين بالعمل السياسي يدركون دور وسائل الاعلام وخطورتها في نفس الوقت، إذ أن الاعلام مؤسسة ايديولوجية، تمارس وظائف التوجيه والتبرير والادماج ، وهي ايضا سلطة رابعة توظف كوسيلة لصناعة الرأي العام (دغدغة العواطف ، التهييج،…) ولعل هذا الامر هو ما جعل إخوان بنكيران (بأجنحتهم الدعوية والسياسية والخارجية) ينجحون حتى الان في تنفيد أكبر عملية نصب على الشعب المغربي، من خلال جِرّه إلى الاهتمام بأمور ثانوية وموضوعات هامشية للتغطية على تمرير مجموعة من القوانين التنظيمية المتعلقة بتنزيل الدستور وغيره (القانون الجنائي –الاجهاض- المجتمع المدني- التقاعد –المقاصة…الخ) مع التغطية في نفس الوقت على فشلها، في الوفاء بالتزاماتها أمام المواطنين. عملية النصب هذه تتم من خلال: سياسة الإلهاء، التضليل، العصا والجزرة ، الإغراق بالمشاكل الحياتية اليومية، فهل عادت حكيمة لعادتها القديمة؟

منذ عقود خلت فطن شهيد الطبقة العاملة وفقيد الحركة التقدمية عمر بنجلون (والذي تتلمذ بنكيران على يد قتلته بحسب ادريس لشكر)، فطن بذكائه الثاقب وحسه النضالي الرفيع إلى أن التضليل يعتبر من أشد أنواع القمع خطورة، وخطورة فعل التضليل تكمن أساسا في خلط الاوراق واستعمال نفس اللغة والخطاب والمفاهيم من لدن الانسان المضلِل (الحروب الكلامية في البرلمان –التماسيح- الباندية- السفهاء –الموت في سبيل الله…الخ)، ما دامت الغاية بالنسبة إليه هي الطمس والغموض والتشويش والتحريف لبلوغ الهدف وتحقيق الولاية او الوصاية على عقول الناس فكل الطرق تؤدي إلى ” الوصاية على الشعب باسم الدين والاخلاق”.

الوقائع التي عشناها مع حكومة ” التفويض الالهي ” يكشف حجم التضليل الممارس من قبل أولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة وبقدرة قادر على رأس المسؤولية السياسية .فغاب الحس السياسي المسؤول وتراجعت الثقافة والفكر، واحتلت مكانها الأهواء والنزوات والمصالح الشخصية الضيقة داخل الممارسة السياسية، فهل اكتفى “مرضِي سيدي ربي” بالتضليل لممارسة هواياته؟

كلا، لقد اعتمد زبانية بنكيران على استراتيجية الإلهاء ، معتمدين في ذلك على “بركات” تشومسكي و الذي ذكر في كتابه “أسلحة صامتة لحروب هادئة” ملخصا فكرة الالهاء قائلا: “حافظ على تشتت اهتمامات العامة، بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة”. وأضاف: “اجعل الشعب منشغلا، منشغلا، منشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، حتى يعود للضيعة مع بقيّة الحيوانات” يتعزز هذا الطرح مع أستاذ علم الاجتماع السياسي حسن الخولي: “إن سبل الحاكم لإلهاء الناس عديدة يكون هدفها الأول إزاحة ما هو سياسي عن الأضواء لصالح ما هو فني أو غير ذلك”.

فيما اعتبر الناقد السينمائي المصري طارق الشناوي أن “فن إلهاء الشعوب يقوم على استخدام الفن وأهل الفن استخدما كبيرا في أوقات الأزمات والحروب”.. وامثلة هذا التوصيف كثيرة في عهد حكومتنا الموقرة (المسرح “لطيفة احرار” – السينما “الزين اللي فيك” واخرون – المسلسلات “المكسيك” -الاجهاض – نشر الصور بمسمى الفضيحة “صورة امرأة معاصرة بالبرلمان” – الموسيقى “اعطيني صاكي” – لوائح لاكريمات …..الخ.)

غير أن الفضيحة تفضحهم، كيف لا وهم شكلّوا حلف تجار الدين الذين تحدثوا باسم الله و عفا الله عما سلف مع لوبيات السياحة الجنسية ، الذين فزعوا من أن تبور تجارتهم التي تعري السينما والمسرح بعض ملامحها ، وحلف اخرمع تجار السياسة الذين ينتهزون الفرص لدغدغة عواطف الشعب، للحصول على أصوات تمكنهم من الاستمرار في الاستفادة من الريع السياسي، وما وقفة شباط امام البرلمان في هذا الصدد إلا دليل على البؤس السياسي الذي وصل إليه تجار الدين والاخلاق (بمعناها الفج).

فسياسة الإلهاء تصل إلى ابتكار مشكلة أو موقف لإثارة رد فعل معين عند الناس بحيث يندفع الجمهور، مطالبا بحل يرضيه كالسماح مثلا بانتشار العنف في بعض المناطق الحساسة أو مناصرة الاعدام حتى تصبح قوانين الأمن العام مطلوبة او محاصرة ومعاقبة المثقفين والفنانين ولو حتى على حساب حرية الآخرين.

بل يتم اللجوء أحيانا لخلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية وتفكيك بعض الخدمات العامة الحيوية، وبناء عليها يتم تقديم حلول مبرمجة لنا سلفا وواجبة القبول على أنها شر لابد منه (التقاعد نموذجا) أو تمرير لإجراء أو قانون غير مقبول من الممكن أن يثير زوبعة داخلية في البلاد، لو تم تنفيذه دفعة واحدة وتطبيقه بشكل تدريجي حتى يتم قبوله وفرض الامر الواقع (الغاء صندوق المقاصة مثلا).

إن تحويل الرأي العام الوطني منه والدولي عن المشاكل التي يعيشها الوطن، والتي لا تصلها وسائل الإعلام سواء المكتوبة منها أو المسموعة، هو ضرب من ضروب سياسة الإلهاء، التي يعتمدها النظام لتمويه الشعب، سياسة تعتمد التركيز على الجوانب التافهة التي لا تهم المواطن بالدرجة الأولى، وتمرر برامج لا علاقة لها بقضايا الوطن، مسكنات أو «سكاتات» لا تعدو أن تكون سوى أدوات للتسلية ونسيان الهموم.

استراتيجية الإلهاء ضروريّة لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضروريّة في ما يقع في الكواليس من صفقات خيالية، يتم فيها بيع وتفويت «الوطن» لمصالح خارجية. استراتيجية لا يعيها ولا يعرفها إلا أصحابها، تجعل من الإعلام حجر الزاوية، تمرر عبره سمومها وتأتي أكلها غالبا. تخترع وتبتكر مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، تجعل الشعب يعيش وينغمس في مشاكل بعيدة عما يعيشه في وطنه، يستمد معلوماته من الفيسبوك عبر كليشيهات، او تراه يفتح فاه أمام التلفاز ويتلقى المعلومة دون نقد ودون «غربال»، وهكذا يصبح حديث غرف الدردشة واخبار الجرائد والتلفاز مصدرا لأحاديثه ، بل مصدرا معرفيا موثوق به.

هكذا تنكشف لعبة “عمي بنكيران” كحالة مرضية مستعصية على العلاج، حار تشومسكي في تشخيصها ما دام بنكيران عنوان للسنة التي ولد فيها تشومسكي(1928) (الأزمة)، لأن من أهم أعراضها الشاخصة التمركز حول الذات، وهي حالة مع الاسف مدمرة، لأنها قائمة على الإلغاء والاقصاء لكل من يخالفها، كان الفيسبوك في عونك يا تشومسكي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *