متابعات

بعد زلزال 1960 .. أكادير تنبعث من جديد

كتب الباحث والكاتب، سعيد الغماز، مقالا حول أهمية مشروع تأهيل قصبة أكادير أوفــلا، في ما يلي نصه:

سنة 1960 ويوم 29 فبراير والساعة الثانية عشرة إلا ربع ليلا والدرجة 5،7، كلها أرقام لن تُمحى من ذاكرة مدينة اسمها أكادير ولقبها مدينة الانبعاث تقع وسط المغرب. إنها أرقام تعكس سنة وقوع الزلزال ويوم الفاجعة وساعة المأساة ودرجة الدمار الذي أتى على ثلاثة أرباع المدينة بشكل كامل وقضى فيه ثلث السكان البالغ عددهم آنذاك 37.744 والباقي موزع بين جريح وبلا مأوى.

زلزال أكادير خلف دمارا كبيرا ومهولا، وإلى جانب هذا الدمار أتى الزلزال على تاريخ المدينة التي فقدت مركزها القديم وتاريخها المعماري العتيق. لكن ما تم اكتشافه يوم الأربعاء 14 أكتوبر الأخير بعد حفريات أركيولوجية يجعل تاريخ المدينة ينبعث من جديد، لأن الاكتشافات تتعلق بمبان وتحف تعود إلى القرن السادس العشر. ففي إطار برنامج التهيئة الحضارية للمدينة 2020-2024 الذي يشمل قصبة أكادير أوفلا، شرع فريق من الأركيولوجيين في أشغال إعادة بناء القصبة كما كانت عليه قبل الزلزال وباستعمال نفس مواد البناء. هذه الأشغال جعلت فريق العمل يقف على اكتشاف أثري بالغ الأهمية لم يكن يتوقعه حتى أكبر المتفائلين من أعضاء الفريق. فقد تم العثور على الباب الرئيسي للقصبة والذي وُجد كما كان لحظة وقوع الزلزال حيث وجدت إحدى دفتيه مُشرعة فيما الأخرى مغلقة وكأن الزمان توقف منذ 29 فبراير 1960 على الساعة الثانية عشرة إلا ربع ليلا لتتحرك عقارب ساعته من جديد يوم 14 أكتوبر. الباب في حالة سيئة بفعل عوامل الزمان ويحتاج لخبرة ومجهود استثنائي لإعادة الحياة فيه ومحو دمار الزلزال ودهر الزمان، لكنه مع ذلك يُشكل إرثا معماريا لا يقدر بثمن ويكفي أن نعرف أنه يعود للقرن 16. إلا جانب الباب تم اكتشاف بقايا السور الذي بُني في عهد السعديين والممرات التي كانت تسلكها ساكنة القصبة. كما همت الاكتشافات بقايا محراب المسجد وآثار صفوف المصلين والميضأة التي كان يستعملها المصلون في الوضوء. وفي الجهة الأخرى المطلة على البحر تم العثور على الرحى الكبير الذي كانت النساء يطحن فيه الحبوب. استمرار الأبحاث الأركيولوجية قد ينتج عنه اكتشافات أخرى ربما تكون فيها مفاجآت ليست في الحسبان تستعيد الذاكرة التاريخية للمدينة. وربما تُخرج قصصا وحكايات من رماد القبور وحطام المباني لتبعث فيها الحياة من جديد وتجعل مدينة الانبعاث تستعيد ذاكرتها.

القصبة التي تمت فيها هذه الاكتشافات الكبيرة لم يبق منها إلا بعض الأسوار المطلة على المدينة وعلى البحر، وهي أسوار مُضاءة كل ليلة وكأن نورها الليلي ينتظر اليد التي تُخرج تاريخها من ركام النسيان ويعيد لها أجزاءها المفقودة. أسوار تنظر إلى البحر وإلى المدينة بأنوارها الممتدة في المكان والزمان وهو ما جعل الساكنة والسياح يصعدون إلى القصبة نهارا ليسافروا عبر الأركان الأربعة للمدينة، ويصعدون إليها ليلا ليسافروا في الزمان العميق المكشوف بالأنوار الممتد على طول البصر. ثم يعودوا إلى كورنيش البحر لرِؤية تلك الأسوار بأضوائها الليلية وهي تُلقي التحية لشعار المملكة “الله الوطن الملك” المنقوش على الجبل الذي يضع القصبة فوق رأسه بكل احترام وتقدير. إنها من الأعلى قصبة وتاريخ وذاكرة ومن الأسفل فن وسياحة وجمال.

تأسست القصبة في عهد السلطان محمد الشيخ السعدي عام 1540 بهدف التصدي لهجمات الأسطول البرتغالي الذي كان يبحث عن طريق الهند. بعد أن نجحت مدفعية القصبة في إبعاد الأسطول البرتغالي وتحرير مدينة أكادير، بدأت القصبة تفقد قيمتها إلى أن قام السلطان عبد الله الغالب بإعادة بنائها. ويتكون التصميم المعماري للقصبة من سور خارجي مدعم بأبراج وله باب مصمم بشكل دائري، وبداخل السور توجد منازل وأزقة وساحات صغرى إضافة للمرافق الاجتماعية من جامع كبير ومستشفى وخزينة، كما تتضمن “الملاح”، وهو حي خاص باليهود وبه معبد، وضريح للا يامنة، كما تتوسط المدينة الأثرية ساحة أو فناء لإقامة الحفلات والأهازيج الشعبية والأفراح.

إعادة تأهيل قصبة أكادير أوفلا يُعد رافعة مهمة من أجل استرجاع ذاكرة المدينة في أفق تدعيم التراث اللامادي للمدينة وتطوير السياحة بإضافة البعد التاريخي والتراثي للمدينة إلى جانب مؤهلاتها المعروفة كالبحر والشاطئ والطقس المعتدل.

*كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *