ثقافة وفن

حلي يكتب: تواصل-ثقافة..هلوسات آخر السنة الحالية

التصدع الذي تعرفه الثقافة بمفهومها الشامل اليوم لا يعود إلى اختيارات ذاتية، لا شك في أنها مؤثرة، بل يرتبط أساسا بالتحولات العميقة التي مست ميكانزمات التواصل ودخول الأنترنت إلى حلبة الوجود الإنساني. وعندما نقول حلبة، فلأن الأمر كان دوما عبارة عن صراع بين أشكال التواصل التقليدية والأساليب التي استقدمتها الثورات المتتالية منذ الثورة الصناعية إلى الآن، مرورا بظهور الطباعة والأدوار التي كانت تلعبها المؤسسات التي على رأسها، من دون شك، المؤسسات التربوية والتعليمية بمختلف مشاربها؛ ثم التواصل الجماهيري الذي كان التلفزيون أحد منصاته الأساسية.
فعندما ظهرت الشبكات التواصلية العنكبوتية، لم تكتف بالتصارع مع باقي الأشكال التقليدية، بل عمدت إلى تجفيف ينابيعها وقطع مختلف الشرايين التي كانت تساعد على الإبقاء عليها.
وفي الواقع، لم ينتبه العديد من مدبري العوالم الثقافية وإنتاجات هذه الأخيرة إلى أن الأمر لم يكن يهدف إلى التنويع، بل كان مقصده الإجهاز على كل تلك المساحات التقليدية للعمل الثقافي.
وما لبثت الأشكال الثقافية السابقة أن وجدت نفسها مضطرة للرضوخ لهذه الموجات الجديدة، بمحاولات عديدة لاسترضائها من خلال اللجوء إلى استخدام بعض أدواتها (الحالات، المخجلة في كثير من الأحيان، التي لجأ فيها بعض المخرجين إلى إقحام فيديوهات في مسرحياتهم علها تضفي عليها طابع الأعمال المسايرة لعصهرها)، أو ذلك اللجوء للدعاية للأعمال الثقافية والفنية باعتماد العوالم الزرقاء التي تبيَّن، فيما بعد، أن اللوغاريتم التي تستند عليه يجعل الخبر لا يتجاوز الدائرة المحدودة للأصدقاء. وقد يبصم هؤلاء الأصدقاء بعلامة محبة تجعلهم يغيبون في أغلب الأحيان عن تلك اللقاءات، لأن البصمة تكفي في عالم افتراضي لا يستدعي الحضور فعليا، حيث يكفي “تأكيد” الاطلاع على الخبر.
ثم هناك نقد الاستقبال الذي تم الإجهاز على دوره كذلك. فبعدما كانت الملاحق الثقافية أو المجلات المتخصصة في الأدب والثقافة والفن تلعب دور الموجِّه والمعلن، عاد هذا الدور اليوم إلى المؤلف نفسه أو إلى المخرجين الذين غدت صفحاتهم منبرهم، فيها يعلنون خبر الصدور وبها ينشرون الحوارات ومواعيد اللقاءات والعروض. ومن أغرب ما نتج عن التداخل بين مهام الإنتاج ونقد الاستقبال والدعاية أنْ أصبح المبدعون مرهقين بالمتابعة ومنهكين بفعل اللجوء الدائم إلى مهام وحرف لتلميع أعمالهم وصورتهم إلى حد يصل إلى حد استجداء الإعجاب وتتبع أصابع المعجبين وبصماتهم، دونما اهتمام بما قد يحدثه العمل في مخيلات المتلقين وبما قد ينجم عن ذلك من تفاعلات محتملة.
هكذا توارت صورة الأعمال إلى الوراء مفسحة المجال لهلوسات تعاليق لا قيمة لها، يصب أغلبها في نهر المجاملات المتسمة بشيئين اثنين: تكرارها الممل، وفراغها من أي صلة بمضمون العمل أو محتوياته.
وقد ضاعفت هذه التداخلات صعوبات المجالات الثقافية التي كانت هشة في أصلها، إذ أصبح المتلقي يكتفي بصورة المؤلف وبغلاف العمل أو الإعلان الثقافي، معتبرا أن الخبر كاف لإشباع الفضول. أو كما قال لوجون، “في السابق كنا نقرأ العمل ونتخيل مؤلِّفه، أما اليوم فنرى المؤلِّف ونتخيل العمل”. يا لها من سخرية! ربما أنها وليدة قلب الأدوار تلك. فبعدما كنا نذهب إلى المكتبة أو إلى قاعة العروض، أصبحت هذه الأخيرة تأتي إلينا متدثرة، في شاشاتنا الصغيرة التي همشت الكتاب الورقي تهميشا، وهي اليوم منهمكة في تقليص مساحات حضور التلفزيون داخل وسط الأسري والمجموعات، لأنه بكل بساطة لا يسمح بالانزواء الذي تسمح به الشاشات الفردية.
سوف أسوق مثالين في علاقة بهذا الحديث، للتذكير ببعض تلك التحولات التي هزت كيان العمل الثقافي.
اولهما عندما كان الخبر الثقافي يكفي وحده لتصور العالم أكبر عبر الأفكار. فعندما كنا نطلع في المدن البعيدة على خبر لقاء ثقافي بمقر اتحاد الكتاب، بزنقة سوسة، بالعاصمة مثلا، كان الأمر يبدو كبيرا جماهيريا بفضل التغطيات الإعلامية التي كان يحظى بها، وبفضل تطلع المناطق كلها لتتبعه ومعرفة تفاصيله وما يدور خلال انعقاده. وقد كانت تساعد على ذلك قلة الأنشطة الثقافية في الهوامش وانحسارها في دوائرها الإقليمية ومحيطها المحدود. وكانت الأفكار تسري في تلك الأوساط بدعامات جمعوية وسياسية حزبية وثقافية، ولم تكن هناك من سبل لمناقشتها إلا في المؤتمرات واللقاءات الوطنية التي تنظم مرة في السنة أو في السنتين. وهكذا، كان الزمن يطول بين الخبر وتلقيه والتعليق عليه ومناقشته مع المعنيين.
وأما اليوم فقد تقلصت المسافات الزمنية لحد لا يوصف، إذ يمكنها أن تصل إلى دقيقة واحدة لا غير، وتعليق لا يتجاوز كلمات قليلة أو سطرا واحدا في كثير من الأحيان. وحتى المجابهات أصبحت لحظة شاردة وغدت السجالات الثقافية نادرة فوق مساحات سريعة الزوال.
ويعني هذا المثال أن سبل الترويج الثقافي كانت تعمل بناء على وتيرة موروثة وعلى إدراك خاص للزمن وللأثر، إذ يتشرب المتلقي المادة الثقافية ويطلع عليها وفق سلسلة زمنية طويلة تبدأ بالإعلان وتنتهي باللقاءات والعروض التي لم يكن يعوضها أي تخييل في غياب العمل نفسه. ولذلك، كان المدخل الثقافي الوحيد هو استهلاك المقروء وتاريخ المشاهدات في حالة المسرح والسينما، وترتيب خزانة السماع في حالة الموسيقى.
وأسوق في المثال الثاني الزمن الذي كانت تفرضه الكتابة والوقت الذي غدت تكتب به الكلمات في الشاشات. السبابة التي تبصم لم تعد تأبه بالمعلومات أو بالمدلولات. إذ نشأ عن البصمات كثير من التجسسات الخفية. من يمر دون أن يعلق… حق من الحقوق الجديدة.. ومن ثم أصبح اللاموقف سلوكا عاديا، مع سيادة خانقة للامعنى.. ذروة التفاهة في بعض الأحيان، وسخافة التكرار المميت الذي هو في الواقع تعبير عن العجز في مسايرة الإيقاع الزمني الجديد .. الطلب المتزايد على النشر .. وقلة الموارد والينابيع، وضعف الرصيد الثقافي .. تحديات السرعة وحب الذات اللامتناهي.. كلها قتلت الفعل الثقافي، كما كنا نتصوره فيما مضى.
ولذلك اعتقد أننا مدعوون لمراجعات تهم البديهيات ولا تكتفي فقط بمحاولات لمجاراة أنماط التواصل الجديدة.

عمر حلي: فاعل ثقافي وأكاديمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *